ريمان برس -

يكتب محترف الكتابة عن كل شيء.. كل شيء.. يكتب عن الوطن والأمة.. عن الساسة والقادة والفقهاء والعلماء.. يكتب عن القتلة واللصوص والمنحرفين، عن الفساد والفاسدين، عن المزورين والغشاشين، عن الرجال المحترمين، والغير محترمين، عن الأحياء يكتب وعن الأموات.. عن الدين والسياسة و الفن يكتب.. عن السينماء والمسرح يكتب.. وعن الأدب والشعر والنحت يكتب.. وعن التسول والمتسولين يكتب.. عن الوزير والغفير يكتب.. عن الأمة وقضاياها، عن العالم يكتب.. يكتب الكاتب عن كل شيء في الكون مايجري فيه، عن حروبه ولصوصه، عن الحرامية الكبار والصغار يكتب.. عن الدول الكبرى التي أصبحت مسخرة لخدمة الشركات القابضة والمتعددة الجنسية يكتب.. عن براكين نيوزلاندا يكتب.. وعن فيضانات البيرو وحرائق غابات الأمازون ولوي أنجلوس  يكتب.. لكن هذا الكاتب عاجز أن يكتب عن نفسه عاجز لدرجة الخوف، وإذا حاول أن يكتب عن نفسه يرى وكأنه يتجرد من  ملابسه في شارع عام أو في سوق مزدحم بالمتسوقين..؟!
بحبر القهر والحسرة يكتب الكثير من الكتاب الذين يتمسكون برباطة الجاش حتى وهم يخطون حروفهم بحبر الصبر الذي ذاق ذرعا من صبرهم، نعم هناك من ذاق الصبر من صبرهم ورغم ذلك نجدهم يخوضون في كل شيء يجري على سطح الكوكب من مأسي فلسطين الي مهرجانات الرياض ومن ثورة تحرير سوريا من شعبها وقيمها الي إنتخابات رئاسة لبنان، التي اخفقت لأكثر من عامين ثم تحققت في ساعتين..؟!
أن  الكتاب الذي يكتب عن كل شيء ويتطوع في مناصرة أي قضية وظاهرة لكن للأسف نجده  أعجز واجبن من أن يعبر عن ذاته، أن يتحدث عن نفسه، أن يكتب عن معاناته، أن يكشف للناس حقيقته وأسرار حياته، وكيف يعيش وأسرته، وكيف يواجه حياته اليومية.
وقد نجد كاتب يتحلى بكثير من الشجاعة والجرأة في تناول غالبية القضايا الحياتية، قد ينتقد نظام ويواجه حكومة وأباطرة النفوذ، دون تردد لكنه اجبن وأعجز أن يواجه نفسه ويكشف حقيقته للناس لكل من يقراء كتاباته.
سلوك مثل ماذا يمكننا أن نسميه أو نطلق عليه من مسمى..؟!
كثيرون من الكتاب يخجلون عن إظهار حقيقة واقعهم الحياتي المزري للناس، خوفا حينا، ومدارة للفضيحة التي قد تطالهم لأنهم كشفوا عن حقيقة يعيشونها، حقيقة يعملون جاهدين على إخفائها عن الناس الذين ينظرون  لهذا الكاتب أو ذاك بقدر من الإعجاب والاحترام والتقدير، وبعضهم قد يرى لهذا الكاتب أو ذاك رؤية مؤثرة ربما تجعله يتمنى أن يكون في مكانه، ولا يعرف ان هذا الذي ينبهر به وما يقوله ويكتبه يعيش حياة تعيسة وربما بائسة ويتجرع مرارة القهر بشكل يومي بل وعلى مدار الساعة وتجثم على كاهله كل هموم الدنيا، لكنه عاجزا أن يعبر عن ذاته محتفظا بالصورة التي رسمت له في اذهان من يعرفوه من العامة فيما هناك آخرين يعرفوه ويعرفوا معاناته الحياتية، وآخرين يعرفوه وقد ملوا معرفته أو يجاهدون للتقليل من هذه المعرفة هروبا من تبعاتها..؟
لماذا فعلا يضطر الكاتب أن يرتدي بدلة( اسبورت وربطة عنق وحذاء ملمع) ويظهر بمظهر النجم الانيق فيما يخفي  تحت  الصورة براكين القهر وجبالا من الآهات المستعرة..؟!
ان شريحة الكتاب وحملة الأقلام والأفكار هم أكثر الفئات المجتمعية تهميشا وتجاهلا غالبا فيما القلة المترفة فيهم يدفعون الثمن أيضا ولكن بطرق مختلفة، وقد يضطرون لتلبية رغبات  مشغليهم ورعاتهم حتى يحافظوا على ( برستيج) زائف وصورة تخفي تحتها حقائق حياتية مفجعة..؟!
أين يكمن العيب إذا..؟
في الواقع الذي يعيش فيه والمجتمع ونظراتهم له؟ أم في الكاتب الذي يفترض به أن  يتحدث عن نفسه و عن واقعه الحياتي بصدق وشفافية مقتديا بالكاتب الأمريكي الذي طرد منها ونزعت عنه جنسيته ومات مقهورا بغربته في جنوب فرنسا واقصد  مؤلف رواية ( الجدي) _ هنري ميللر _ الذي فضح المجتمع الأمريكي ونخبه وتحدث بكل شفافية ومصداقية وسفور عن نفسه وشعوره بحديث   وصل لدرجة (المجون)..؟!
أو أن يتعامل مع واقعه على طريقة  بطلة الفيلم العربي (الراقصة والسياسي) التي حين بلغت ذروة غضبها من الطريقة التي عوملت بها من قبل الحكومة والمجتمع والطبقة السياسية فقررت كتابة مذكراتها فجاء إعلانها عن نيتها كتابة مذكراتها بمثابة كارثة على النخب السياسية حاكمة ومعارضة..!
اعتقد أن هذه الراقصة امتلكت شجاعة لم يمتلكها كاتب بما فيهم الكاتب الذي قبل أن يكتب لها مذكراتها، الذي قد تكون في حياته أسرار وقصص تفوق ما لدى الراقصة.
أن لكل إنسان غرفة مغلقة في حياته، غرفة حالكة الظلام لا يعرف ما فيها أحدا غيره حتى اقرب الناس اليه، غرفة تحتوي على أسرار شخصية لا يعلم تفاصيل ما فيها غيره والله سبحانه وتعالى، وهو اجبن من أن يفتح هذه الغرفة ويكشف للناس ما فيها خوفا من نظرات الناس وتغير رؤيتهم له ولمكانته الاجتماعية،فيما ذات الكاتب الذي يخجل من الحديث عن نفسه يتحدث عن الأخرين بكل سفور ولا يتردد في التشهير بهم والتعرض حتى لحياتهم الشخصية والأسرية، وقد لا يكون كل هذا نابع من دوافع موضوعية بل قد يكون له دوافع عديدة، مثل الدوافع السياسية والحزبية لأن الكاتب الحزبي قطعا رسالته هي الدفاع عن حزبه وأهدافه وبرامجه، وأخر قد يكون دافعه ذاتي وهو تحقيق مصلحة شخصية، وثالث قد يكون دافعه مناصرة طرف ضد أخر داخل مفاصل السلطة حيث يكون التنافس محتدم بين رموزها وكل طرف يحاول طمس مآثر الأخر وحضوره وتقديم نفسه لرأس الهرم السلطوي بأنه الأقرب له والأكثر وفاءا واخلاصا له من الأخرين..؟!
للموضوع صلة