يمان برس - خاص - تمهيـــد :
وقف الإنسان البدائي مشدوهاً أمام الظواهر الطبيعية كالبروق والرعود والزلازل والبراكين، كذلك في مواجهة الوحوش الكاسرة كالأسد أو النمر وقد تربص أي منهما به الدوائر واستعد لمهاجمته والانقضاض عليه وجذبه بمخالبه وتمزيقه بأسنانه الحادة، فأخذ الإنسان يتوسل إلى الحيوان ويرجوه الخلاص مقابل أن يقدم إليه أحد أبنائه أو بناته أو إحدى زوجاته أو حيواناً من حيواناته( )، وذلك إذا ما تركه الوحش الضاري لحال سبيله ولم يقض عليه.
والثابت، تاريخياً، أن الإنسان القديم كان يقدم للآلهة الوثنية القرابين بدءاً بالذبائح أي الأضحيات البشرية، ثم الذبائح الحيوانية ... الخ، وكانت الأضاحي البشرية هي السائدة في المراحل البدائية الأولى من تاريخ البشرية الوحشي( ).
وقد احتلت البحار والأنهار أيضاً وما يرتبط بها من أساطير وخرافات، حيزاً هاماً في العقل البشري منذ ظهور الإنسان على الأرض، كما نالت أيضاً، وما يزال بعضها، قسطاً من الأضاحي البشرية( ) أو الحيوانية وغيرها.
وفي زماننا فإن الطغاة وزعماء اللاهوت هم أكثر الأشخاص حصولاً على القرابين البشرية، وتسبباً في سفك دمائها.
وقد بلغ مجموع الضحايا البشرية عدداً لا يحصى خلال العهود البربرية، بل إن هناك من الشعوب ما كان يوقع على اتفاقات خاصة مع الدول المجاورة لاستئناف الحرب دورياً لهدف محدد، هو الحصول على أسرى لتقديمهم قرابين بشرية، وربما كانت هذه الظاهرة هي الوحيدة في تاريخ البشرية، والمتمثلة في اتفاق دولتين على شن الحرب في آن واحد بدافع ديني محض.
ويستنتج بعض العلماء، من وراء استمرار عادة تقديم الأسرى قرابين للآلهة الوثنية، أن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية لم تكن قد بلغت الدرجة المطلوبة من التطور، وإلا فإنه كان سيتم الإبقاء على حياة الأسرى لاستخدامهم كعبيد يستفاد منهم في زيادة الإنتاج وتنويع مصادره.
ولا زالت (القرابين البشرية) تقدم في زماننا على مذابح الحروب والنـزاعات والصراعات السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها.
ويعتبر البعض الأضاحي البشرية، في مضمار تفسيراتهم لها وللشعائر والمعتقدات المرتبطة بها، إلى درجة اعتبارها نوعاً من تحديد النسل البدائي أو التلقائي، سواء للآلهة الوثنية أو الطواطم الإلهية، أو للعبادات الطقسية، من شمس وقمر وكواكب وأجرام سماوية أخرى، منها (الشُّعْرى اليمانية) و (نجمة الصباح)، المعروفة باسم (العُزَّى)، والتي ذكرت في القرآن كأخت ثانية من مزعوم بنات الله، (جل وتعالى عما يصفون)، الثلاث (اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى).
ويؤكد عدد كبير من المؤرخين أن المقصود بـ (العُزَّى) (نجمة الصباح) أو الإلهة الوثنية (عثتر) في النقوش اليمنية و (عشتروت) في بابل.
التضحية بالأطفال والنساء :
التضحية بالأطفال، طقس ديني وثني وعادة شعائرية بدائية، كانت تمارس في أغلب مجتمعات العالم القديم( ) ومنها شمال الجزيرة العربية والأجزاء الملاصقة للصحراء العربية من اليمن.
والثابت، تاريخياً، أن عادة التضحية بالأطفال الذكور، ووأد البنات في صحراء الجزيرة العربية، كانت منتشرة عند الساميين أيضاً، نظراً لاعتقادهم الراسخ، بأن الطعام والأطفال هما الشيئان اللذان لا ينالهما الإنسان، إلا بقوى سحرية وشعائرية متصلة بتوالي الفصول ومرتبطة بتعاقب المواسم.
وكانت القرابين الدموية من متطلبات (كهنة الدين) الوحشية الأساسية في بعض الفترات التاريخية، وما تزال كذلك من لوزام اللاهوت العربي حتى يومنا هذا.
البراهــين التاريخيــة :
من الشواهد اليقينية على وجود القرابين البشرية في التاريخ العربي القديم ورد في القرآن الكريم قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، في قوله تعالى: ((فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى. قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين))( ).
كذلك افتداء (عبد المطلب) جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنه (عبدالله) في القصة المعروفة بـ (القداح)، حيث تم الافتداء بمائة جملاً هي آخر ما رست عليه القداح.
ويورد (ابن النديم)، تفصيلاً للكيفية التي كانت تجري بها واحدة من شعائر وطقوس التضحية بالأطفال، لدى ملة أو مجموعة دينية من مئات الملل والنحل التي كانت تسود الشرق الأدنى القديم فيما قبل ظهور الإسلام، وهم (الحرانيون):
((في ثمانية الأولى من شهر (آب) يعصرون خمراً حديثاً للآلهة ويسمونه بأسماء مختلفة كثيرة، ويضحون في هذا اليوم بصبي طفل - حديث الولادة - للآلهة - الأم - أولى الأصنام)).
أما عن الكيفية التي يتم بها التضحية بالكائن البشري (الطفل) لدى بعض القبائل البدائية فيصفها (ابن النديم) كالتالي:
((يذبح الصبي، ثم يلصق حتى يهترئ، ويؤخذ لحمه فيعجن بدقيق السميد وزعفران وسنقبل وقرنفل وزيت ويعمل منه أقراص صغار، مثل التين ويخبز في تنور جديد ويكون لأهل السر للشمال لكل سنة، ولا تأكل منه امرأة ولا عبد ولا ابن أمة - أي جارية - ولا مجنون، ولا يطلع على ذبيحة هذا الطفل وعمله إذا عمل، إلا الثلاثة (كمرين) - الكهنة - وما بقي من عظامه وغضاريفه وعروقه وأوراده يحرقونه (الكمرين) قرباناً للآلهة)).
وكانت الشرائع اليهودية (الموسوية)، التي تبيح التضحية بالأطفال، تشترط التضحية بالابن البكر، سواء من البشر أو من البهائم، ورد في التوراة:
((وكلم الرب موسى قائلاً: قدم لي كل بكر، كل فاتح رحم من بني إسرائيل، من الناس ومن البهائم إنه لي)).
ويبدو من اشتراط أن تكون الضحية، هي النتاج الأول، أن هذا كان جزءاً من الشعيرة (مفرد شعائر)، إذ هي متكررة جداً في المصادر القديمة، جاء في العهد القديم:
((ويكون متى أدخلك الرب أرض الكنعانيين، كما حلف لك ولآبائك وأعطاك إياها، إنك تقدم للرب كل فاتح رحم، وكل بكر من نتاج البهائم التي تكون لك)).
حتى الخبز والطعام اشترطت فيه البكورة ((أول عجينكم تعطون للرب رفيعة في أجيالكم)).
والراجح هو أن اليمنيين القدماء، لم يمارسوا شعائر التضحيات البشرية على غير عادات جيرانهم من الأعراب في الجزيرة العربية (السعودية الآن) باستثناء (نجران) و (جيزان) و (عسير)، ويستثنى من هذه القاعدة حالات شاذة كانت تتم فيها التضحية بالبشر لأجل الآلهة الوثنية (الشمس - القمر - الزهرة ... الخ)، كما تؤكد ذلك (قصيدة الشمس) و (قانون مَطْر) وسوف نتناولهما لاحقاً.
لقد كانت الأضاحي البشرية في جزء كبير منها وما تزال بأشكالها المختلفة في عصرنا الحديث وخاصة في البلدان المتخلفة، نتاج عصر المعيشة القائمة على الحروب والصراعات الدموية بين بني الإنسان.
وفي مجال الأديان يعتقد المسيحيون أن السيد المسيح عليه السلام، قد صلب فداء عن العالم كله، فكان أضحية بشرية عالمية، ويرون أنه بواحد - هو آدم - دخلت الخطيئة إلى عالم الناس وبواحد أيضاً - هو المسيح - يتم تخليص الجميع من الذنوب والمساءلة يوم الحساب (القيامة).
وفي مضمار القرابين البديلة فإن (القُدَّاس) الذي يحتل أهم مكانة في الطقوس الكنسية المسيحية يرمز، إلى المسيح كذبيحة، ويحل فيه الخبز محل جسد المسيح، كما يحل النبيذ محل دمه. وتؤمن معظم الكنائس المسيحية بعقيدة مؤداها أن ثمة تحولا يتسع مجال ما يقدمه إلى الآلهة مما كانت تدره عليه الأرض وتخرجه من ثمار، ولذا نجد ثلاثة أنواع من الذبائح والتقدمات ظل الإنسان.
وعلى هذا، تكون أفكار ارتكاب الخطيئة، والخلاص والفداء، ثم الإنسان - الرب المخلِّص، هي العناصر الأساسية في الفكر المسيحي.
((إن أول فكرة ثورية (جرت استعارتها من المدرسة الفلسفية) قامت على أساسها المسيحية - كما قال (ف. إنجلز)، تجسدت لدى المؤمنين، هي أن قرباناً واحداً عظيماً متطوعاً (المسيح)، حمل كوسيط خطايا كل العصور وجميع بني البشر، مفتدياً إياها مرة واحدة وإلى الأبد))( ).
وفي مجال الشهادات التاريخية عن التضحية بالبشر لإرضاء الكائنات الغيبية، ورد في كتاب (رحلة ابن بطوطة) ما يلي:
ذكر السبب في إسلام أهل هذه الجزائر
وذكر العفاريت من الجن التي تضربها في كل شهر:
((حدثني الثقات من أهلها كالفقيه عيسى اليمني، أن أهل هذه الجزائر كانوا كفاراً، وكان يظهر لهم في كل شهر عفريت من الجن يأتي من ناحية البحر كأنه مركب مملوء بالقنديل، وكانت عادتهم إذا رأوه أخذوا جارية بكراً فزينوها وأخلوها إلى بدخانه، وهي بيت الأصنام، وكان مبنياً على ضفة البحر، وله طاق ينظر إليه منه، ويتركونها هنالك ليلة، ثم يأتون عند الصباح، فيجدونها مفتضة ميتة، ولا يزالون في كل شهر يقترعون بينهم، فمن أصابته القرعة أعطى بنته.
ثم إنه قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري، وكان حافظاً للقرآن العظيم، فنـزل بدار عجوز بجزيرة المهل، فدخل عليها يوماً، وقد جمعت أهلها، وهن يبكين كأنهن في مأتم، فاستفهمهن عن شأنهن، فلم يفهمنه، فأتى ترجمان فأخبره أن العجوز كانت القرعة عليها، وليس لها إلا بنت واحدة يقتلها العفريت. فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضاً من بنتك بالليل، وكان سناطاً لا لحية له، فاحتملوه تلك الليلة، وأدخلوه إلى بدخانه، وهو متوضئ، وأقام يتلو القرآن، ثم ظهر له العفريت من الطاق فداوم وهو يتلو على حاله، فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها، فوجدوا المغربي يتلو، فمضوا به إلى ملكهم، وكان يسمى شنورازة وأعلموه بخبره، فعجب منه، وعرض المغربي عليه الإسلام ورغبه فيه، فقال له: أقم عندنا إلى الشهر الآخر، فإن فعلت كفعلك، ونجوت من العفريت، أسلمت، فأقام عندهم وشرح الله صدر الملك للإسلام، فأسلم قبل تمام الشهر، وأسلم أهله وأولاده وأهل دولته.
ثم حمل المغربي لما دخل الشهر إلى بدخانه، ولم يأت العفريت، فجعل يتلو حتى الصباح، وجاء السلطان والناس معه، فوجدوه على حاله من التلاوة، فكسروا الأصنام وهدموا بدخانه، وأسلم أهل الجزيرة، وبعثوا إلى سائر الجزائر فأسلم أهلها، وأقام المغربي عندهم معظماً.)).
- ٍمنتزع من كتاب: العقل البدائي (تحت الطبع).
- أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء |