الرئيسية  |  الاتصال بنا  |  فيس بوك
الإثنين, 04-مايو-2020
ريمان برس - خاص -

وأنا أتصفح إرشيف هاتفي اليوم صادفت هذه الصورة التي لا أعلم مصدرها .. لكنها ومن النظرة الأولى أعادتني لأكثر من عقدين الى الوراء، لأيام الطفولة، والمدرسة، والقرية، وبساطها الأخظر، وفراشاتها الملونة، ونسيمها العليل، وناسها الطيبين .. حيث السماء تمطر نبلاً وطهراً ونقاء، والأرض تنبت براءة ومحبة والفة وسلام، والضحكات تنساب رقراقة كجداول في النفوس.

تذكرت بيت «الساقي» العتيق، حيث نشأت وترعرعت، وتشكل وعيي الأول بالوجود والحياة والناس .. كنت أصحو باكراً على أنغام صياح الديكة، وهديل الحمام، وزقزقة العصافير، وصوت والدي يرتل ورده القرآني .. أفتح نافذة «الديوان» فتكتحل عيناي بمشاهد تلك الواحة الغناء وارفة الظلال، بمدرجاتها المتناسقة، وخظرتها المترامية، وجموع الفاتنات يتناجين ويغرفن الماء من الغيل المجاور للمنزل .. ثم يلفحني نسيم طبيعتها البكر العابق بالعطر، فأمتلئ حياة وهمة ونشاط.

أصعد الى السطح فيصادفني دخان الحطب الصادر من «الديمة»، ووجه أمي القديسة «خديجة» وقد شمرت عن ساعديها بعد إنتهائها من «نهيز» اللبن، وهي تعد العجين الخاص بالخبز، وتضع المزيد من الحطب في «الصُعد» بضم الصاد ويعني «التنور»، فيما كتلي القهوة يفور في أعلاه ورائحة البن البلدي الممزوجة بنكهة الزنجبيل تفوح منه، مالئةً المكان - تفتح الشهية، وتنعش النفس، وترد الروح.

أتحرك سريعاً للإغتسال وإرتداء ملابسي المدرسية، وتصفيف شعري «أيام ما كان لي شعر هههه» وتفقد كتبي ودفاتري .. وبمجرد ما أنهي إستعداداتي هذه، يتناهي الى سمعي صوت أمي الرخيم تنادينا جميعاً لتناول الفطور .. كانت المائدة توضع في «الجُبا» سطح المنزل .. فنلتف حولها جميعنا مشكلين حلقة دائرية في الهواء الطلق، نتناول «المكروس أو الرهيفة» الى جانب الخبر مع السمن، والعسل واللبن والبسباس البلدي .. فيما الطبيعة حولنا وأمام أعيننا تبدو مع لحظات الشروق، بروعتها وأناقتها وبهاءها كإحدى الفراديس الضاجة بالحياة.

كنت أحرص على تناول فطوري سريعاً، حتى لا أتأخر عن المدرسة التي تبعد عن المنزل مسافة ساعتين سيراً على الأقدام، وبمجرد ما أترك المائدة، وأهم بالتحرك، تقطع أمي طعامها وتتبعني الى الدرج ومعها عدد من الكعكات الصغيرات، التي كانت تعدها بالسمن واللبن البلدي كلحقة بعد إعدادها للفطور وذلك خصيصا لي .. كانت تضعهما في لفافة من الورق، مشددة عليّ بضرورة أخذهما معي الى المدرسة وتناولها عندما أجوع، ورغم رفضي للأمر أحياناً خصوصاً عندما كبرت ووصلت المرحلة الثانوية، كون الكعك تصدر رائحة قوية، الأمر الذي كان يبدو لي محرجاً أمام الآخرين، الا أن أمي كانت تغصبني على أخذها وتدسها بين كتبي عنوة.

كان مذاق تلك الكعك التي كنت غالبا ما أتقاسمها مع بعض زملائي، يصبح وقت الفسحة ألذ وأشهى وأطعم من كل أطباق ووجبات العالم، بل وكل شيء في الحياة، ووحدها كانت فعلاً تصبرني على الجوع حتى عودتي الى البيت .. ورغم طول سنوات دراستي إلاّ أن أمي لم تمل الأمر أو تتعب أو تنسى يوماً، بل إنها كانت تحرص وتجتهد وتتفنن في إعداد أشكال وأنواع مختلفة من الكعك، ليبدو كل نوع الذ وأشهى من سابقيه .. وهكذا ضلت تلك المرأة العظيمة والإستثنائية تمنحني إهتماماً خاصاً دون بقية إخوتي، كوني كنت وحيدها الذي واصلت تعليمي.

شكراً بحجم الكون والوجود لأمي .. شكراً بعدد المجرات والكائنات والرمال والماء والهواء لأمي .. إشتقت اليك وافتقدتك كثيراً ايتها القديسة العظيمة - إشتقت لخبزك، وكعكك، وعصيدك، وقهوتك، ولمساتك، وضحكتك، واهتمامك، وحرصك، ووجهك المضيء، وحتى دعواتك التي كنت تغمريني بها كل صباح .. كوني بخير يا «خديجة غانم» .. فمهما طال فراقنا، وتعاظم هذا القبح الذي يحاصرنا، والعذاب الذي يسومنا - حتماً سنلتقي، ويلتئم شملنا من جديد، ونستعيد صفاء ونقاء وبساطة وفرح وروعة ذلك الزمن الجميل.

*عدن: 3 مايو 2020م
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=3050308391657611&id=100000354416330

أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS

مختارات
جميع حقوق النشر محفوظة 2025 لـ(ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ ï؟½ï؟½ï؟½)