ريمان برس - خاص -
حين نصف الماضي بما فيه الماضي القريب بالزمن الجميل فلا يجانبنا الصواب في هذا الوصف..
إذ يكفي أن في الزمن القريب كان (الشيخ) شيخ (مالي هدومه كما يقول الأخوة في مصر الكنانة) ، وكان سيد قومه وخادمه، ومهما كانت قضيتك أو مشكلتك وقفزت لديوان الشيخ كان الشيخ غرام.. وكان (القبيلي) قبيلي بجد يعرف أصول القبيلة واعرافها وتقاليدها وواجباتها وقوانينهاويعرف العيوب التي تنتقص من مكانة القبيلي..
في ذاك الزمان كان (الضابط) ضابط يشعر بواجباته وانتمائه ويحترم الزي الذي يرتديه حد التقديس..
التاجر كان تاجرا له مكانته الاجتماعية ليس بمقدار ما يملك من المال بل بمقدار ما يملك من قيم وأخلاقيات.. الفقهاء ورجال الدين كانوا أيضا يجسدون القدوة في علاقاتهم الاجتماعية.. العامل أو (الشاقي) كان بدوره صاحب قيم وأخلاق يعمل بصدق ويؤدي دوره بأمانة وإخلاص.. الاستاذ والمعلم كان يؤدي دوره كمربي فاضل وقدوة سلوكية في الوسط الاجتماعي يهابه محيطه ويبجله طلابه ويقدره كل من عرفه، لأنه كان يجسد بقيمه وسلوكه نموذجا مثاليا في الوسط الاجتماعي..
لا أعرف ماذا حل اليوم بهذه الرموز والشرائح الاجتماعية حيث لا تجد (الشيخ) شيخا وليس له من المسمى الذي يكني به سوا الاسم فيما السلوك لا يتسق غالبا ولا ينسجم مع مكانة هذه الشخصية الوجاهية وكثيرون يحملون هذه المسمى دون أن يكون فيهم ذرة من قيم وأخلاقيات الشيوخ..؟!
وعلى هذه الشاكلة قيس بقية المسميات والصفات والمكانات السالفة الذكر التي ليس لأصحابها علاقة تذكر بقيم وأخلاقيات الصفات التي يتصفون بها، من عند الفقيه والقاضي والأستاذ والمعلم إلى التاجر والضابط والقبيلي والعامل فجميعهم اهانوا وأذلوا المسميات التي أطلقوها على أنفسهم، وجميعهم يحملون ألقاب ومسميات لا يتمتعون باخلاقياتها وقيمها وكرمها، وقد تجد (خادم _أو ممن يطلق عليهم تادبا أحفاد بلال ) يتحلي بقيم وأخلاقيات لا يتحلى بها كبار الشيوخ والوجاهات الاجتماعية ولا يعرفها القبيلي المزعوم، ورب ( متسول) على قارعة طريق أكثر كرما من (تاجر) يحضي بمكانة اجتماعية مرموقة نفاقا لماله وليس حبا لشخصه..؟!
ذات يوم كنت أتجول مع احد ( الاصدقاء) وكان حديثه عن شخصية تجارية مرموقة وقال لي حرفيا ( تخيل هذه الشخصية بدون مال ماذا يساوي؟ لاشي..!)
أذهلني توصيفه فعلا لأن الإنسان أيا كانت مكانته الاجتماعية فأن قيمته تحددها أخلاقياته وإنسانيته ومواقفه وليس المكانة التي قد يحصل عليها بالمال أو بالقوة، فالمال والقوة لا يصنعان مكارم الأخلاق، بل يصنعان الخوف في وجدان البسطاء الذين تدفعهم ضروفهم لإتقاء قوة وجبروت الشيخ والتزلف ونفاق صاحب المال، الحال ذاته ينطبق على علاقة الغلابة من العامة مع صاحب السلطة والمسؤول الذي يوظف سلطته ووظيفته لاذلال الناس وانتزاع احترامهم الزائف ومحبتهم الكاذبة، لذا نجد أن تحولات الزمان أن طالت أمثال هؤلاء وسقطوا من عروشهم الواهية نجد السخط يتفجر ضدهم ممن كانوا أقرب الناس لهم وكانوا يطبلون لهم ويسبحون بحمدهم ويبجلوهم.. بغض النظر عن المكانة الاجتماعية التي يحتلها الشخص المعنى، شيخا كان أو ضابطا أو تاجرا أو مسؤلا أو حتى أستاذا أو قاضيا أو عاملا..؟!!
ما أود قوله إن المكانات الاجتماعية مهما كانت لا تصنعها القوة ولا يصنعها المال بل تصنعها مكارم الأخلاق فالإنسان لا يكون إنسانا إلا أن تحلى بالقيم الإنسانية والمشاعر الإنسانية التي بها لا بالمال ولا بالقوة ولا بالمسؤولية والسلطة تشيد المكانات الاجتماعية وتحضي بحب الناس الصادق..!
بيد اننا في زمان كل شي فيه مزيف ومخادع، زمان فيه الداعية نصاب والعالم كذاب والرموز الوجاهية مجرد حرامية إلا ما رحم ربي، والمسؤول فاسد، والقبيلي قاطع طريق تجرد من كل قيم القبيلة إلا فيما ندر..؟
والضابط يهين الزي الذي يرتديه كلما مد يده ليقبض نظير عمله من مواطن مقابل خدمته مع ان مهمته خدمة هذا المواطن لا ابتزازه ومساومته مقابل خدمته..؟!
التاجر غالبا غشاش ومرابي إلا ما رحم ربي، والأستاذ لايقل عن هؤلاء إهانة لرسالته ودوره، وحتى العامل أصبح يدين بدين هولاء فتجده كسلان ومخادع ولا يؤدي عمله بأمانة وإتقان..؟!
وعلى خلفية كل ذلك وصلنا الا ما نحن عليه اليوم من انحطاط قيمي وأخلاقي، وزيف ونفاق وكذب وغش وخداع، فصار القوى يفترس الضعيف، والمسؤول ينهب المواطن والمواطن صار يتحلى بكل مفردات الجبن والنفاق متوهما انه سيخارج نفسه وينجوا بمصلحته فشاع هذا الاعتقاد حتى أصبح ثقافة معتمدة عند كل أفراد المجتمع الذين للأسف وجدوا أنفسهم في نفق العبث والفوضى ومربع العجز والانحطاط تاركين لعصابات الفساد الاجتماعي أن تمارس بحقهم كل صنوف القهر والاذلال دون أن يكون في مقدورهم مجرد الاعتراض على واقع يعيشوه لأن( من لم يكرم نفسه كرها يهان) وليس هناك أسواء من أن يهان شعب على يد منتحلي الصفات الاجتماعية الذين منحوا أنفسهم مكانات لا يستحقونها والقاب لا يعرفون أبجدية قيمها وأخلاقياتها وفرضوا سطوتهم ونفوذهم على الشعب دون رغبته أو أخذ رأيه في كل ما يجري بحقه وهو من يدفع وحده ثمن هذه السلوكيات.
للموضوع صلة.
[email protected]