ريمان برس -
اعتدنا أن نعرف "الموت" بأنه وفاة الشخص الذي نكرمه بالغسلة والكفن، و" كرامة الميت دفنه" وسريعا نأخذه الي أقرب " مقبرة أو مدفن" ونواريه التراب، وبالتالي ينقطع حضوره في الدنيا، وهذا في الواقع ليس "الموت" بل إنتقال الفرد من الحياة الفانية الي حياة الخلود، هذا الإنسان الذي جاء الي الدنيا رغم إرادته ذكرا كان أو أنثى، كحصيلة للديمومة الحياتية تلبية لمشيئة الله سبحانه وتعالى، يرحل منها ايظا دون إرادته تلبية لرغبة وإرادة خالقه، ولكن هذا ليس الموت، بل إنتقال الإنسان إلى الحياة الأبدية الخالدة ويعد " الموت" ومغادرة الدنيا بمثابة ميلاد جديد للإنسان في دار الخلود..!
نعم أن ما نراه نحن البشر ونطلق عليه "الموت" هو في الواقع " ميلاد" للإنسان في حياة خالدة يعيشها، رغدها وشقاوتها مرهونان بما قام به في الدنياء..!
غير أن هناك " موت" أخر أشد قساوة، وأكثر إيلاما من الموت المتعارف عليه..!
نعم إنه " الموت في الحياة"..!
" الموت" الذي تعيشه وأنت حيا تعيش في أوساط اهلك وناسك ومجتمعك، وهو" الموت" الأكثر مرارة من "موت" المغادرة إلى العالم الأخر..!
أن "الموت" المر، هو أن تجد نفسك عاجزا عن مواجهة متطلبات الحياة والعيش الكريم لك ولأسرتك، أن تجد نفسك عاجزا عن علاج نفسك، أو علاج أيا من افراد أسرتك، أن تجد نفسك عاجزا عن تلبية احتياجات أسرتك، عاجزا عن توفير لها أساسيات الحياة الكريمة، وأن يصل عجزك درجة الفشل في توفير لقمة العيش، ناهيك عن توفير لهم الخدمات الصحية والتعليم والملابس..!
واسوي كابوس ينتابك هو أن يأتي امر الله ويعجز أولادك عن توفير قيمة القبر والكفن، وحق شهادة الوفاة وأمر الدفن..!
أن "الموت" الحقيقي هو أن تجد نفسك بلا وطن، بلا دولة، بلا مؤسسات وطنية، بلاء رعاية، بلا مرجعيات يمكن أن تلجي إليها، لتشكي لها همك وما حل فيك..!
أن هناك قرابة " 25 مليون يمني" أمواتا يتحركون، يلهثون، يتسابقون من أجل اختطاف لقمة العيش وأن كانت مغمسة بالذل والقهر الحسرة، يعيشون غالبيتهم على نفقات المنظمات الخارجية الممولة من "الكفار والمشركين" ممن نلعنهم ونرحب بصدقاتهم..؟!
"25 مليون" أمواتا في الحياة عاجزين عن تغير واقعهم الحياتي الكئيب، يستوطنهم الخوف والقهر والعجز، يعيشون فعلا حياة الأموات، ولكنهم أمواتا أمام بشر أمثالهم وليس أمام الله خالقهم، الذي حرم الظلم على نفسه، وهو أرحم الراحمين، وارحم بعباده من ابائهم وامهاتهم، لكن هؤلاء الأحياء الأموات يعيشون الموت المركب أمام بشر أمثالهم، عاجزين عن الدفاع على حقهم في الحياة وفي الوطن وفي الهوية، وفي حياة كريمة كفلتها لهم شرائع السماء وقوانين الأرض..!
نعم.. كم من هؤلاء يفترشون الارصفة، وينامون تحت الجسور وفي الطرقات، وكم من هؤلاء يباتون ببطون خاوية، وكم من هؤلاء لا يجدون ما يسترهم من حر الصيف وبرد الشتاء، وكم من هؤلاء يغلقون أبوابهم و " تحسبهم اغنياء من التعفف"، وكم من هؤلاء يعجزون عن قيمة الأدوية وقد يذهبون ضحايا امراضهم، وكم من هؤلاء من يطردوا الي الشوارع مع اسرهم لأنهم عاجزين عن سداد الإيجارات، ولا يجدون من يكترث بهم، فالكل مشغول ب"الجهاد" والكل مشغول بدحر "الانقلاب"؟!
كل هذا يحدث ونعيشه ونشاهد موبقاته وتداعياته، دون أن نجد ممن تولوا شئون هؤلاء الناس من يهتز له جفن، وليس فيهم من يقول "والله لو ان دابة تعثرت على طريق في العراق لسوإلا عنها عمر يوم القيامة "..!
نعم الكل يتحدث عن الله والرسول وعن كتاب الله، وعن الوطن والوطنية والجمهورية والسيادة والقرار، ولكن كل تلك الأحاديث مجرد رافعة لتحقيق أهداف سياسية غايتها تخدير الجوعي والعرايا والمرضى، واقناعهم بأن هذا هو " دين الله" وأن " ما هم فيه أمر به الله "، وأن عليهم الصبر حتى يفرجها الله، أو أن الوطنية تحتاج التضحية من أجل الجمهورية والسيادة والقرار الوطني..؟!
أن الدين ليس محصورا في " جهاد" الأعداء، بل وفي جهاد النفس، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي الرأفة بالرعية وتلبية احتياجاتهم وتفقد شئونهم، دون مقايضة أو مساومة، أن من تولى شئون العباد سوف يساله الله عن كل جائع، وكل عاري، وكل مريض لم تمتد إليهم ايادي من تولى شئونهم وهذا واضح في كتاب الله وسنة رسوله وفي منهج الصالحين من عباده الذين تركوا بصماتهم وعدالتهم في صفحات التاريخ وذاكرة البشر..!
والوطنية ليست مجرد شعارات فارغة ونصب وارتزاق باسمها وباسم الشعب الغلبان..!
أعرف أن قولي هذا قد يفتح عليا أبواب الجحيم من قبل بعض المترفين من " سدنة السلطات" و"حراس النافذين" الذين يزعجهم حد الرعب أن تقول "آه" من إملاق أو قهر، بل عليك ان تسبح بحمدهم وتمجد عهدهم الزاهر، لكن لم اعد اكترث بما يقولوا وبما قد يفعلوا، فكلمة حق أؤمن بها أمام "سلطات فاسدة" تعد من أفضل طرق الجهاد..!
أن " الأموات" الحقيقين هم هؤلاء الذين يعيشون صامتين ويتحركون صامتين، عاجزين عن الدفاع على حقهم في الحياة الكريمة، وليس أولئك الذين انتقلوا الي جوار ربهم وكثيرين منهم لا يموتون وأن رحلوا بل يظلوا عائشين بيننا باعمالهم الخيريه التي عملوها خلال وجودهم بدنيتنا، أولئك ليسوا أمواتا بل أحياء عند الله وفي الدنيا، لكن الأموات الحقيقين هم من يقبلوا حياة الذل والقهر ويرضون بحياة الاستعباد ويصدقون انهم بمواقفهم الجبانة يصنعون خيرا، أو يخدمون الدين والوطن..؟! |