ريمان برس - متابعات - الروائي اليمني علي المقرّي يعالج في روايته “اليهودي الحالي”، الصادرة في طبعتها الرابعة عن دار الساقي سنة 2014، مسألة انهيار الحلم الإنساني بالعدالة، وينوّع فيها من مظاهر الضياع العبثي التي تتحوّط الكائن البشريّ وتسدّ عليه الآفاق.
رواية اليمني علي المقرّي فضاء حكائيّ نلفي فيه فاطمة بنت المفتي تتكفّل بقراءة القرآن على سالم، وهو شاب يهودي ملقب بـ”اليهودي الحالي/المليح”، وتعلمه اللغة العربية، بينما يتكفّل هو بتعليمها اللغة العبرية وشريعة اليهود. وعلى حبل هذه العلاقة، تحابّا حبًّا طاله التحريم بسبب الخلاف بين اليهود والمسلمين في قرية ريدة اليمنية.
اللعنة أسلوب حياة
ينمو الحبّ بين سالم وفاطمة، فتقرر هذه الأخيرة بعد أن وجدت في كلام الفقهاء ما يساعدها على الزواج من سالم اليهودي الحالي (أي المليح) كما كانت تسميه، والرحيل معه. وهذا قليل الحدوث في الروايات العربية، فغالبا ما يكون الرجل فيها ذا سُلطة حتى في الحب. وما إن أتمّ سالم عامه الثامن عشر حتى فرّ بفاطمة إلى صنعاء وتزوجها دون أن تترك هي ملتها أو يترك هو ملته. لتبدأ عقدة الرواية حين تلد فاطمة ولدا وتموت ويُكشف السرّ أنها ليست يهودية بل مسلمة، وهنا يكون السؤال المصيري: هل الولد (سعيد) يهوديّ نسبة إلى أبيه حسب الشريعة الإسلامية أم هو مسلم نسبة إلى أمّه حسب الشريعة اليهودية؟
وهو سؤال يكثّف من تتالي الأحداث في الرواية، حيث يتّخذ سالم من فاطمة مذهبًا وجوديًا، وبعدها يدوّن “حوليات اليهود اليمانية”، ويسجّل ما عاناه اليهود من صِعاب، وما اقترفوه من جُرأة على المسلمين ووعيد بالانتقام حين يظهر المسيح المخلّص، وعقاب الإمام الذي نزل بهم وطردهم من صنعاء. وقصّة سالم وابنه سعيد تتواصل إلى الحفيد في أسلوب مماثل وهوية ومصير حائر تُختتم به الرواية.
هكذا تكرس قرية “ريدّة” قانون عزلتها، وفي الوقت نفسه تكسر هذه العزلة بحكاية مكتملة الأركان، في مفارقة واضحة، والعزلة هنا ليستْ لعنة مكتوبة على شعوب بعينها كاليهود بقدر ما هي خيار وجودي، وطريقة للعيش. وتطل على التراجيديا اليهودية في اليمن من لحظة تسام وتدرجها ضمن فعل إنساني رافض للانكسار والانسحاق.
فطريقة السرد المحايد والبارد تمنح الأحداث الروائية المأساوية نقاءً يبعدها عن السقوط في هاوية التشاؤم والتظلم والتباكي، وتصبح مرويات ناطقة موجهة نحو منطقة العقل والوعي وليس إلى منطقة العاطفة واستدرار الدموع.
قناع التاريخ
لا تخفي الرواية، من جهة مغامرتها وخطابها، استمرار اشتغال الروائي على التخييل التاريخي والتراث بقدر ما يعبر عن نزعة لديه لمنافسة المؤرخ في إعادة استقراء التاريخ وكتابته، والإضاءة على ما يمكن أن يجده قمينا بالكشف والانتباه أو بتقديم رؤية المهمشين له، لا سيما في تاريخ اليمن القديم. وهو ما يدلل على محاولة الوعي في البحث عن هوية سردية خاصة به من جهة، وعلى سعي منه إلى تعميق علاقته مع الأنا الجمعية في تعبيرها عن ذاتها ووجودها، من جهة ثانية، دون أن ننسى الأثر الذي تمارسه سطوة القمع السياسي أو الاجتماعي أو الديني على هذا الوعي، ما يدفعه لاستخدام قناع التاريخ مداورة ومجانبة لكي يقول ما لا يستطيع أن يجهر به علانية.
ومما نجده في تضاعيف هذا السرد الحكائي أو في بنيته السردية هو الجرأة في نقد المحرمات واستحضار المسكوت عنه وفي مقدمته موضوع الجنس والجسد، حيث يأتي ذلك مقترنا بالتعبير عن حالة الخيبة والهزيمة أو القمع الذي تعاني منه شخصيات الرواية. كذلك هناك تهجين اللغة من خلال تعدد المعجم اللغوي المستخدم في السرد أو في الحوار الذي يدور بين شخصيات الرواية، والذي يتجاوز الفصحى إلى العامية. حيث يستخدم الكاتب السرد بضمير المفرد المتكلم، ما يجعل العلاقة بين المتكلم/ البطل والمتلقي في الرواية مباشرة، ويضفي عليها طابعا حميميا بسبب إلغاء الحواجز بينهما. ينتقل السارد البطل بين فصول الرواية بحرية، فيقدم في البداية مجموعة من الأحداث والحكايات عن حياته، وعلاقاته من دون أن يكون ثمة ناظم لها أو رابط فيما بينها، الأمر الذي يضفي على تلك الحكايات طابع المجاورة وليس الوحدة، وهو ما يبدو واضحا في كثير من أجزاء الرواية، التي ينتقل فيها الكاتب بين موضوعات وحكايات مختلفة، وتجارب تجعل حركة الزمن في الرواية تتخذ شكلاً حلزونياً، تسمح له بالانتقال بين أزمنة وأحداث مختلفة.
سؤال الأنوثة
إن العلاقة بين عتبة السرد أو مقدماته، ونهايات الرواية، تتخذ طابعاً من الاتصال والترابط ، يحاول من خلاله الكاتب أن يؤكد وحدة هذا العمل، الذي ينطلق من وعي الذات المعذبة في مرحلة متقدمة من العمر، تجعل بطل الرواية/ السارد، وهو يقف عند تخوم العمر، يحاول أن يعيد بناء صورة الحياة التي عاشها، من خلال خليط من الوهم والحقيقة، على مستوى مغامرة التشكيل السردي وتأصيل الهوية السردية من خلال قدرتها على تمثل الواقع وتمثيله سرديا وجماليا، وتوسيع آفاق المغامرة السردية لغة وتشكيلا وتحفيزا ورؤية، باعتبار ذلك هو التحدي الأول الذي ما تزال تواجهه التجربة الروائية العربية بشكل عام واليمنية خصوصا، ويعدّ الامتحان الأصعب لقدرتها على التجديد والبحث واختراق السائد والقار في هذه التجربة.
وما يميز رواية المقرّي أيضاً هو صوت الأنثى، من خلال التجريب وسؤال الأنوثة المشتبك معه في أطروحاته، وما ينشده من فضاء سردي تؤثثه الأنوثة بلغتها وبوحها، وتفتح فضاءاته على رؤيتها الجديدة للعالم والأشياء بعد أن ظل هذا الفضاء موشوماً بالذكورة، لتبرز فاطمة رمزًا للتسامح والسلام والحب، فهي تنظر إلى جميع البشر على أنهم خلق الله بغضّ النظر عن دياناتهم. وصاحبة اليد العُليا في علاقتها بسالم، فهي فتاة مسلمة قارئة ومُطلعة على أغلب العلوم والمعارف عند المسلمين واليهود.
نقلا عن العرب |