ريمان برس - خاص -
مثل مشروع عبد الناصر القومي كمشروع نموذجي ومثالي جاءا ملبيا لرغبات الجماهير العربية ومجسدا لأهداف وتطلعات الأمة العربية في الحرية والاستقلال والسيادة والكرامة والوحدة ، لم يكن عبد الناصر يحلم بامبراطورية عربية تحكمها وتتحكم بها مصر ، ولم يكن يحلم بنفط العرب ولا بالسيطرة على العرب ، وايضا لم يكن يحلم بأن يكون وصيا على العرب والعروبة ، كان عبد الناصر يحلم بمجد أمة العرب ، واستقلال وسيادة وكرامة وحرية الوطن والمواطن في الوطن العربي ، كان عبد الناصر مسلما ملتزما ، وعربيا مؤمنا بامته وبقدراتها ساعيا لتحقيق أهدافها الحضارية المشروعة ، كان رافضا للجماعات الإسلامية ولمشروعها الفكري الكارثي ، كما كان أيضا رافضا لفكرة التطرف الفكري ونقل التجربة الفكرية المادية بكل نظرياتها الفلسفية إلى الواقع العربي ، كما كان رافضا فكرة تهميش أو تجاهل العامل الديني في إدارة التحولات لكنه لم يؤمن يوما بفكرة توظيف الدين لتحقيق أهداف سياسية وكان يرى في هذا السلوك فعل من خداع وتضليل للشعب العربي .
وكان عبد الناصر رحمة الله عليه عدوا لدودا للاستعمار ومحاوره وأدواته وزبانيته ، وكان مؤمنا بحق كل مواطن عربي في الحرية والعدالة والحياة الكريمة ، وحين قدم تجربته الاشتراكية كان حريصا على تطبيق تجربة اشتراكية تحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين أبناء الشعب انطلاقا من حاجة الواقع العربي واستجابة لطلبات المجتمع العربي ، وكانت مرحلة ( التجربة والخطاء ) الوسيلة التي استطاع من خلالها الرئيس عبد الناصر أن يستلهم أفكاره التي حرص أن تكون نابعة من احتياجات المجتمع وليس مجرد ترف فكري أو فلسفة فكرية ، ولذا يقول ( لا نريد أن ننهمك في النظريات بحثا عن حياتنا ولكنا ننهمك في حياتنا ذاتها بحثا عن النظريات ) رؤية فكرية وفلسفية مكنته من الوصول إلى نظرية سياسية متكاملة تليق بالأمة وبتاريخها وبدورها وبرسالتها الحضارية ، ولأنه توصل لذلك فقد حورب من قبل الجميع أعداء الداخل وأعداء الخارج ، كان عدوا ولايزال عدوا للصهيونية والاستعمار الإمبريالي ، وكذلك كان ولايزال هو العدو لقوى الرجعية العربية والاقطاع ، كما كان عدوا شرسا لكل من يعطي نفسه الحق في استعباد وامتهان الآخرين تحت أي مبرر ديني أو طبقي أو سلالي أو وجاهي بل كان يرى في ( تحالف قوى الشعب العامل ) المكون من العمال والفلاحين والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية هم الشعب وهم أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة والتحولات الحضارية .
لكن للاسف برغم عظمة القائد وفكره السياسي ، وعظمة التجربة والرؤية السياسية والفكرية التي توصل إليها عبر مرحلة التجربة والخطاء ، ورغم الانجازات التي حققها عبد الناصر داخليا وإقليميا ودوليا ، إلا أنه وهو الذي خاض ومنذ اللحظة الأولى لثورة يوليو مواجهة مفتوحة مع الاستعمار الصهيوني والامبريالي ،وجد نفسه يواجه داخليا على مستوى مصر وعلى مستوى الوطن العربي ، قوى الرجعية العربية متمثلة بأنظمة كأنظمة الخليج ومعها نظامي الاردن والمغرب , وايضا مكونات وتكتلات حزبية تمثلت في ( جماعة الإخوان المسلمين ) ومعها قوى اقطاعية تضررت مصالحها من الثورة ، وقد ربطت هذه القوى مصيرها بمصير الأنظمة الرجعية التي كانت ولاتزال بمثابة الحاضنة والراعية والداعمة لأعداء ناصر المحليين الذين وجدت فيهم القوى الاستعمارية الخارجية جسرا لها تعبر من خلالهم إلى ضرب عبد الناصر ومشروعه ، في الجانب الآخر كان هناك التكتلات السياسية والحزبية من بعض المتطرفين سياسيا وحزبيا من ( بعثيين وماركسيين ) هولاء كانت لهم دوافعهم الخاصة في معاداة عبد الناصر ونظامه بسبب بيروقراطية وتسلط بعض اركان النظام الناصري الذين كانوا بدورهم أشد خطورة على النظام الناصري من أعدائه ، إلى جانب حسابات سياسية ورغبات وأهداف تستوطن بعض من الرموز البعثية والماركسية ، الذين كانوا ينظرون لشعبية عبد الناصر باعتبارها الخطر الذي يهدد وجودهم ومسارهم المستقبلي فراحوا يستغلون اخطاء النظام الناصري لتشويه صورة القائد ومشروعه وخلق المزيد من العوائق والتحديات أمامه وأمام مشروعه الحضاري القومي فكان أن التقى كل هولاء المناهضين للزعيم ناصر ومشروعه وتجربته وتحولاته بوعي أو بدونه التقوا كل هولاء المناهضين مع القوى الاستعمارية وحلفائها من أنظمة الرجعية العربية جاعلين جميعهم عبد الناصر ومشروعه القومي هو العدو التاريخي والاستراتيجي ..؟!
عبد الناصر الذي كان رافضا لفكرة الوحدة مع سورية عام 1958م وكان يرى وهو المؤمن بحتمية الوحدة العربية وجاعلا منها أحد أهم أهداف النضال العربي ، لكنه كان يرى أن الوحدة يجب أن تقوم وفق أسس ومنهجية وتكامل اجتماعي ومحكومة بضوابط قانونية ودستورية ، وان الوحدة بنظر عبد الناصر لا تحكمها العواطف ولا الانفعالات التلقائية ،ومع ذلك قبل الوحدة بعد وصول قيادة النظام في سوريا جميعا على متن طائرة للقاهرة واضعين عبد الناصر أمام أمر واقع في وقت كانت سورية تواجه مؤامرة خطيرة من الاستعمار الصهيوني والفرنسي ومن نظام العراق الذي كان يقوده عبد الكريم قاسم الذي سعى لنقل التجربة السوفيتية ليس للعراق وحسب بل لكل الوطن العربي ومع أن الاتحاد السوفييتي كان حليفا استراتيجيا للرئيس ناصر وبفضله دخلوا لمنطقة الشرق الأوسط ، إلا أنهم تغاضوا عن تصرفات قاسم في العراق كما تركت قبله بريطانيا وامريكا نوري السعيد ..؟!
خاض عبد الناصر معارك جانبية شرسة مع قوى الداخل القطري والقومي ممثلا بقوى الرجعية والاقطاع ومع جماعة الإخوان وبعض البعثيين والماركسيين ؟!
وحين اقول بعض الماركسيين وبعض البعثيين فهذا يدل على أن هناك عقلاء كثر كانوا يتواجدون في مفاصل التيارين فقد كان هناك الماركسي محمود امين العالم ومعه مصطفى طيبة وهم من رموز الصف الاول في التيار الماركسي على مستوى الوطن العربي ومع ذلك كانوا يدركون أن الطريق التي يسير عليها ناصر هي الطريق الصحيح ومثلهم كان هناك رموز داخل مفاصل البعث ، لكن كان هناك آخرين في البعث والماركسيين يخوضون معركتهم مع ناصر ونظامه مستغلين أخطاء رموز في مفاصل النظام الناصري ، بعد وحدة عام 1958م بين مصر وسورية راح الشيوعيون في سورية مفرغين أنفسهم لاصطياد اخطاء النظام الناصري وقد وجدو ضالتهم في المشير عبد الحكيم عامر ومثلهم فعل البعثيون وإذا كان الحزب الشيوعي السوري وزعيمه خالد بكداش ومعهم بعض البعثيين الطامحين بالسلطة من اصحاب النزوع القطري قد عملوا على إسقاط الوحدة عام 1961م لترفع على إثر ذلك فكرة ( فشل الوحدة العربية بل واستحالة تحقيقها )؟! وهي النافذة التي تسلل منها أعداء الوجود القومي العربي وأعداء الوحدة العربية متخذين من الانفصال ذريعة باستحالة تحقيق الوحدة العربية بل اعتبار هذا الخيار خيار طوباوي عصي على التحقيق وبالتالي يجب إسقاط فكرة الوحدة من الذاكرة العربية ، مع حدوث الانفصال بين مصر وسورية أعلنت الجزائر استقلالها وانتصرت ثورة المليون ونصف المليون شهيد على الاستعمار الفرنسي وتم تنصيب الرئيس أحمد بن بلة اول رئيس للجمهورية الجزائرية وهو المعروف بولائه لعبد الناصر ومشروعه القومي ، ومع ذلك سرعان ما تم الانقلاب عليه من قبل زميله هواري بومدين قائد الجيش ذو الميول الماركسية ، ومع ذلك غض ناصر الطرف عما جرى في الجزائر بل سعى بكل قوته ونفوذه لتهدئية الوضع في الجزائر عشية انقلاب بومدين حتى لا تحدث فتنة وحرب اهليه في البلاد الجزائر وشعبها والأمة العربية في غنى عنها ، ولم يطلب يومها ناصر من بومدين سوى سلامة الرئيس بن بلة في مقر إقامته الإجبارية ، وفي عام 1962م قامت الثورة اليمنية بدعم ورعاية وتمويل وإسناد من مصر عبد الناصر ، وبدلا من أن تدار في شوارع صنعاء وجبال وسهول اليمن المعارك بين الثوار الجمهوريين وبين القوى الرجعية والاستعمارية ، دارت المعارك للاسف الشديد واقولها أسفا بين ( الناصرين والبعثيين والماركسيين ) وكانت هناك قوى اقطاعية ورجعية تغذي هذا الصراع وانتهى الصراع بسحق قوى الثورة والجمهورية من الناصرين والبعثيين والماركسيين وجاءت قوى الثورة المضادة واستولت على البلاد وفصلت الثورة والجمهورية على مقاساتها ..؟!
لماذا حصل هذا ؟ حصل نكاية بعبد الناصر ومشروعه فقط وسعي كل طرف على إثبات وجوده وتسجيل مواقف لصالحه , وفي كل هذه المسارات والتداعيات كان المثقف العربي _ المزعوم _ قطريا وقوميا يعيش بين ركام (الانتهازية) ومستنقع (الغباء ) تحكمه عواطفه وتحركه رغباته القائمة على قانون المنفعة الذاتية والمصالح الحزبية رغم أن لا مصلحة حزبية حصدتها أيا من الأطراف المتناحرة بل جميعها دفعت ثمنا وثمنا باهضا جدا لاتزل عاجزة عن طمس معالمه وتجاوزت تبعاته حتى اللحظة ..؟!
ويؤسفني القول أن أيا من هذه المسميات اليوم قادرة أو تمتلك الشجاعة لتقف أمام محكمة التاريخ وتقيم تجربتها ومسارها وتعترف باخطائها ، رغم فشل الجميع واخفاق الكل إلا أن أيا منهم أجبن في الوقوف أمام مسيرته ونقد تجربته وتقييم دوره ، لأن الانتهازية صفة والنفاق هوية والغباء مكتسب ، وقانون المصلحة هو القانون المعمول به من قبل الكل ؟!
ولن اتي بجديد لوقلت ، لقد فشل الناصريين ولم تفشل الناصرية ، وفشل الماركسيين ولم تفشل الماركسية ، وفشل البعثيون ولم تفشل نظرية البعث ..!
يتبع |