ريمان برس - خاص -
يقال ( المقدمات تدل على النتائج ) وما حدث في منتصف القرن الماضي دل وبكل وضوح عن النتائج التي نعيشها اليوم ونكتوي بسياطها ، إذ أن ما يحدث اليوم على الخارطة العربية من تداعيات فوضوية وعبثية ونزيف دموي كل هذا هو حصيلة طبيعية لغباء وأنتهازية النخب الثقافية والسياسية العربية والفعاليات النخبوية والوجاهية العربية التي مارست سلوكيات انتهازية في مسار الانتصار ( لذاتها ) على حساب الهوية الوطنية والقومية وعلى حساب المشروع القومي الجامع وأهدافه النضالية المشروعة .
ما يجري اليوم على الخارطة العربية لا يمكن عزله عما جرى على ذات الخارطة منذ منتصف القرن الماضي ، فالقوى الاستعمارية وحلفائها في الوطن العربي عملوا جاهدين في سبيل الوصول للحال العربي الراهن بكل صوره واطيافه وتداعياته العبثية ؟!
لقد ساهمت النخب والفعاليات السياسية والثقافية العربية في إيصال الحال العربي إلا ما هو عليه اليوم حين راحت تنافس بعضها ويسعى كل طرف لإلغاء الطرف الآخر ، وعلى سبيل المثال وبعد قيام ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر ، تم الدفع بنوري السعيد في بغداد ليخوض منافسة ضد القاهرة وبدعم استعماري ، فيما كانت الرياض تترقب إنهاك العاصمتين لتضع نفسها زعيمة وقائدة للمنطقة ، فصمدت وسقط نوري السعيد في بغداد وسطع نجم عبد الكريم قاسم الذي ذهب بذات الطريق التي كان يسير فيها سلفه الرجعي نوري السعيد وبدلا من أن تقف قوى الثورة والتحرر العربية إلى جانب عبد الناصر في مواجهة قوى الاستعمار والرجعية والاقطاع راحت هذه القوى تستهدف عبد الناصر ونظامه ومشروعه وتزرع العوائق والحواجز في طريقه فبرزت وكأنها حليفة للقوى الاستعمارية ولا تنتمي لقوى الثورة العربية ، لهذا رأينا كيف أن الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية تحالفت مع عبد الناصر ونظامه ومشروعه تحالفا نديا ، فلم يكن ناصر ونظامه تابعا لموسكو ولا لدول المعسكر الاشتراكي بل كان حليفا لهذا المعسكر باعتبار أعضائه يخوضون معركة ضد قوى الامبريالية والاستعمار وقوى الإقطاع والرجعية ، وفيما كان ناصر على خلاف مع قوى اليسار الماركسي وكانت قيادات و رموز هذا التيار معتقلة من قبل نظام عبد الناصر ، كان الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي يتفهمون ضرورة وأهمية استقرار نظام عبد الناصر لكي يتمكن من مواجهة القوى الاستعمارية ويدير التحولات الحضارية والتنموية بمعزل عن المنغصات الداخلية ،الامر الذي لم يستوعبه اليساريين العرب ، لم يعترض الاتحاد السوفييتي لا سرا ولا علانية على اعتقال بعض العناصر الشيوعية في الوطن العربي وفي ذروة خلافات ناصر مع عبد الكريم قاسم انحاز السوفييت ودول المعسكر الاشتراكي لناصر ضد قاسم العراق وفي سورية أدان السوفييت ودول المعسكر الاشتراكي مواقف خالد بكداش وحزبه من عبد الناصر ونظامه ومن الوحدة المصرية _ السورية التي رفضها بكداش من اول يوم وسخر كل قدرات حزبه ونشاطه للنيل من الوحدة فكرا وواقعا وهوية ، وفي سبيل الانتصار لذاته الانتهازية التقى بكداش وحزبه مع الملك سعود الذي سخر أموالا طائلة لإسقاط الوحدة المصرية _ السورية واعترف بهذا الملك سعود نفسه للرئيس عبد الناصر بعد أن لجاء الملك سعود للقاهرة عام 1963م بعد زيارته للعاصمة صنعاء واعترافه بالثورة اليمنية ، ولكنه لم يعود من صنعاء إلى الرياض بل عاد للقاهرة بعد اقدام شقيقه الملك فيصل على الانقلاب عليه بسبب زيارته لصنعاء واعترافه بالجمهورية العربية اليمنية ..
ادى خلاف عبد الناصر مع الشيوعيون في العراق ومن ثم سورية ولبنان إلى امتداد هذا الصراع وتبعاته إلى كل الأقطار العربية بما في ذلك اليمن بشطريه _ حينها _ وحتى إلى الجزائر وفي مفاصل الثورة العربية الفلسطينية ، ومن العام 1957م إلى العام 1962م كانت الأحزاب الشيوعية العربية أكثر عداء لعبد الناصر ونظامه ومشروعه ربما أكثر من جماعة الإخوان المسلمين ولم ينتهي العداء بعد العام 1962م ولكنه أخذ من جانب الشيوعيين العرب بعدا أكثر ايدلوجية وتشدد وتنظيما ، مع بدء الخلافات فيما بين التيارات القومية الناصرين والبعث ، والذي برزا بقوة بعد الانفصال بين مصر وسورية عام 1961م .
ليأخذ هذا الصراع صورة أكثر جدية ودموية على الساحة اليمنية الكلية بعد قيام ثورة سبتمبر ومن ثم انطلاق ثورة أكتوبر ، وعلى الخارطة اليمنية واجهت مصر كل من السعودية ومن يقف خلفها ومن اصطف إلى جانبها وسخر نفسه لخدمتها ، وايضا واجهت بطريقة أخرى ( العراق والبعث ) كما واجهت التيار الماركسي الذي كان مرتبطا عربيا بالأحزاب الشيوعية العربية وتحديدا بالشيوعيين اللبنانيين والفلسطينيين من خلال جورج حبش وجورج حاوي ومحسن ابراهيم ونائف حواتمة ، إلى جانب ارتباطات دولية لم تكن معلنة لأن الاتحاد السوفييتي كان حريصا على عبد الناصر في هذا الجانب على الأقل ظاهريا وكذلك دول المنظومة الاشتراكية ، ولم يكن النظام الناصري بمعزل عن الأخطاء التي استغلها خصومه أسوة استغلال ولم يكن رد فعل رموز النظام الناصري مثاليا أيضا ..؟!
وان كان الصراع الناصري _ اليساري الماركسي قد أخذ طابعا فكريا في العديد من الساحات العربية فإنه في العراق واليمن اخذ بعدا دمويا مرعبا ..؟!
ما يهمنا من خلال هذا السرد هو هل كانت هناك مبررات ذاتية وموضوعية لهذا الصراع وهذه الخلافات التي شهدتها الفعاليات العربية الثورية فيما بينها تاركة العدو الحقيقي لها وللأمة وتطلعاتها يستفيد ويحصد مكاسب مجانية من هذا الصراع الذي أسس لبنية تحتية لخلافات وتباينات نعيشها اليوم ، إذ أن كل هذه التداعيات العبثية هي نتاج طبيعي لمقدمات متراكمة استوطنت العقل العربي وجعلته في حالة انتهازية واستلاب ونزوع ذاتي تسعى أطرافه إلى التعبير عن ذاتها والانتصار لمشاريعها الخاصة وان على حساب المصلحة الاستراتيجية الكلية للوجود القومي برمته ..!!
في هذا السياق عملت القوى الاستعمارية وأجهزتها الاستخبارية تكريسا لمبدأ الدبلوماسية الناعمة الذي فعلته القوى الاستعمارية وبدعم وتمويل ورعاية من القوى الرجعية والاقطاعية ،عملوا على تشجيع بؤر الصراع والتوتر بين أطراف القوى الثورية العربية والنخب الثقافية والفكرية التي توزعت بين تسويق مشروع الهوية القطرية وبين تسويق قيم الليبرالية والحداثة والحرية وحقوق الإنسان .
يتبع ..
تنويه :
بكل أسف اعتذر عن الإطالة مع التنويه باني مضطر لإضافة حلقة خامسة ..لذا لزم التنويه والمعذرة.
الكاتب |