ريمان برس - خاص -
حين تنهار القيم الدينية والوطنية والروحية والأخلاقية والحضارية والإنسانية في أي مجتمع من المجتمعات تبرز قيمة وحيدة هي ( القيمة المادية ) التي مع انهيار منظومة القيم النبيلة تبقى هي المتربعة على الوعي الجمعي وتصبح ( الذاتية ) هي القيمة المحركة للطفرة المادية ويصبح النشاط الاجتماعي بكل أبعاده مرهون بقانون المصلحة وتحركه جدلية ( الربح والخسارة ) ..
في مثل هكذا مناخ يصبح الكاتب والناشط يصنف من خلال القضايا التي يتناولها فإذا تناول قضية ماء يصبح السؤال الذي يوجه إليه من قبل أقرانه وزملائه هو ( كم استلمت ) ..؟ وللمعني بالقضية يكون السؤال دوما هو ( كم دفعت )..؟!!
يحدث هذا دون أن يكلف أصحاب هذه الثقافة أنفسهم لرؤية الجانب الأخلاقي في هذه القضية أو تلك أو ابعاد القضية اجتماعيا وقانونيا بل يذهب هؤلاء وتحت يافطة التضامن الإنساني غالبا ما يشرعوا لقانون الغاب والفوضى وهذا ليس تضامن بل تدمير للسكينة وزراعة كل عوامل ومقومات الصراع الاجتماعي والطبقي واثارة الضغائن وتمكين الباطل من اعتلى عرش الحق ليصبح هو الحق وهذا هو الأخطر على السلامة المجتمعية ..ِ
هذا السلوك ليس وليد اللحظة أو اليوم بل هو حصيلة سنوات وعقود من سياسة أمتهان ( المهنة ) وامتهان العاملين فيها ؛ وهي سياسة لم تقف في حدود إذلال وامتهان أرباب مهنة الصحافة وإخضاعهم لسلسلة من الإجراءات القهرية والقسرية والتهميش والإذلال ومن ثم تحويلهم إلى أشبه ب ( المتسولين ) ولكن فئة ( خمسة نجوم )..؟ لم توقف الأمر عند هذا بل تم الدفع بطابور من ( اللقطاء ) والمدعيين إلى بلاط صاحبة الجلالة التي فقدت وصفها وتوصيفها وقدسيتها وأصبح بلاطها مجرد مأخور وبقرار رسمي كان الغاية منه في البداية هو تطويع أصحاب هذه المهنة بما يخدم النظام السياسي وأركانه ورموزه ثم تطورت الحاجة مع بروز ما كان يعتبر مناخ ديمقراطي فتحول الواقع المهني بما يشبه ( جراب الحاوي ) ثم سادت وتكرست قيم مادية متجاوزة كل القيم النبيلة وهكذا صارت ( المادة والمصلحة الذاتية ) هما عنوان التوصيف والدينامو المحرك لشريحة واسعة من النشطاء وهو ما انعكس سلبا على الواقع بعلاقاته وأحداثه وتداعياته لتنتفي من ذاكرة الغالبية القيم النبيلة والمبادئ الإنسانية والمشاعر الأخلاقية وأصبح الكاتب المتفاعل مع قضايا العامة عرضة للمساءلة إذا ما أقتنع بعدالة هذه القضية أو تلك حتى لوا أن هذا الكاتب عرف حقيقة هذه القضية أو تلك وعدالتها من غير صاحبها وتقصى الحقيقة وحاول لفت انظار الجهات المعنية الى عدالة هذه القضية التي لا يعرف صاحبها أو ضحيتها ولا يمت له بصلة القرابة بل لشعور الكاتب بمظلمة صاحبها فأن هذا الكاتب سرعان ما يجد نفسه عرضة للمساءلة وسؤال ( كم استلمت ) يردد على مسامعه من الجميع وخاصة ممن يحسبون على ( المهنة ) وهم بتساؤلاتهم جادين وطبيعيين لأنهم يعيشون في هذا الواقع الذي فيه كل شيء بثمن بما في ذلك المواقف التضامنية وبالتالي تندرج تساؤلاتهم في اطار الثقافة السائدة التي كرستها رغبات سلطوية لضرب كل القيم النبيلة في المهنة التي تعرف ( بالسلطة الرابعة ) قبل أن تميع وتصبح غير ذات تأثير مثلها مثل بقية السلطات الأخرى في المجتمع ..؟!!
ومع اعترافي المؤلم بهذا الحقيقة غير أني أدرك جيدا أن هناك كتاب وأقلام شريفة لم تلوثها الثقافة ( المادية ) رغم الظروف القاسية التي يعيشها هؤلاء الكتاب وحملة الأقلام لكنهم مؤمنين بالمثل الحميري القائل ( تموت الحرة ولا تأكل بثديها ) رغم عدم اعتراف الملوثين بنزاهة مثل هؤلاء لانهم ينظرون للأخرين بمنظارهم وليس بمنظار الأخر الذي لا يزل يحمل في وجدانه منظومة من قيم واخلاقيات مقدسة وغير قابلة للمساومة والبيع في سوق النخاسة والابتذال ..؟!!
ثمة حقيقة تقول أن الكاتب أي كاتب لا يمكنه أن يبدع في تناول أي قضية أن لم يكن مؤمنا بعدالتها وإلى هذه الشريحة أنتمي ولي مواقف سياسية ومهنية معلنة اتخذتها بقناعتي الحرة لم يكلفني أحدا بها ولم أقبض ثمنها ولست نادما عليها ورغم سيل التهم التي وجهت ( للعبد لله الذي هوا أنا ) على مدى ثلاثة عقود من داخل الوسط المهني ومن خارجه غير أني لم أشعر يوما بتأنيب الضمير أو الندم على موقف اتخذته أو قضية دافعت عنها وعن صاحبها بغض النظر عن مكانة صاحب القضية الاجتماعية مسئولا في السلطة كان أو في المعارضة مواطنا عاديا أو رجل اعمال وكثير من القضايا خضت فيها دون حتى أن أعرف أصحابها بل اقتناعا بعدالة القضية ..ولم يحدث أن خنتنا قناعتي في أي قضية خضت فيها وأن حدث فأني على استعداد بالاعتراف والاعتراف علنا عن الخطاء الذي وقعت فيه بكل شفافية ووضوح ودون خجل ودون أن أترك الفرصة للعزة بالأثم أن تأخذنا إلى مسارات التيه والنفاق أيا كانت المغريات والمكاسب المعنوية التي قد تعود علي إما المكاسب المادية فلم تكن يوما حاضرة في اهتمامي وإلا لكنت من أثراء الأثرياء في الوسط المهني والثقافي لو عملت وفق قانون وفلسفة أصحاب النزوع المادي وثقافة ( كم تدفع ؟ وكم استلمت ) ويكفي إننا اتهمت ولسنوات بأني واحدا من أكبر ( المطبلين لنظام الرئيس صالح _ رحة الله تغشاه ) !! وأوصاف كثيرة تم نعتي بها وربما لا يزل البعض ينعتني بها ومع ذلك أقول أن كل حرف خطه قلمي في أي موضوع كان تعبيرا عن قناعتي وهذا القناعات لم تكن يوما خاضعة لثقافة الربح والخسارة أو باحثة عن ( مغانم ) وهذه الحقيقة يعرفها الكثيرون من الأصدقاء والزملاء كما يعرفها الكثيرون حتى ممن كانوا يعتبرون أنفسهم ( خصوما لمواقفي ) ولم يقف الأمر في نطاقي الوطني بل وحتى على النطاق القومي فقد كتبت مجلدات دفاعا عن العراق وسوريا وليبيا وعن القضايا العربية العادلة وفي المقدمة فلسطين بل وذهبت إلى أبعد من هذا فيما يتصل بقضية فلسطين والتحقت بثورتها وحملت البندقية دفاعا عن فلسطين ولبنان والقضايا العربية وقضيت سنوات في صفوف الثورة العربية الفلسطينية ليس حبا بالمغانم بل تجسيدا لقيم تستوطني وتتحكم بقناعتي ولم تفارقني يوما هذه القناعات لأنها تستوطن كل مشاعري وتسيطر على وجداني وتفكيري وبالتالي يصعب أو يستحيل أن أكون من رموز ثقافة ( كم تدفع أو كم استلمت ) ..!! |