ريمان برس_ خاص -
من نوافل القول أن أصعب مرحلة يمكن أن يعيشها وطن وشعب هي مرحلة (اللا انتماء ) وهي مرحلة تسود فيها الفوضى والعبث والمزاجية وتختفي فيها سلطة القانون وهيبة الدولة ويتراجع خلالها دور مؤسسات الدولة أو يتلاشى دورها ويسود قانون اجتماعي عبثي بديل لا يعبر عن واحدية القانون وواحدية المواطنة ويزداد الأمر سوءا في حالتنا اليمنية حين يضاف لكل هذا عدوان وحصار ونسيج اجتماعي ممزق غابت فيه كل القيم والاخلاقيات باستثناء القيم المادية التي طغت وتتسع وتكاد تكون هي الثقافة السائدة المعمول بها في مرحلة تاريخية يسعى من خلالها كل طرف بالانتصار لمشروعه الخاص وأهدافه الخاصة فيما المواطن يقف بدوره باحثا عن ذاته وعن مصلحته الفردية بين ركام غبار المتناحرين والحرب والحصار ..!!
يقول علماء النفس ( أن الإنسان هو صنيعة بيئته ) فالبيئة هي التي تشكل قناعات الناس وثقافتهم وافكارهم وسلوكياتهم وفي بيئتنا نماذج شاهدة تؤكد مجتمعة غياب الهوية بكل قيمها واخلاقياتها ؛ وحتى أولئك النخب الذين تلقوا تعليمهم خارج الوطن ويحملون قدرا من الوعي المعرفي والتأهيل العلمي ؛ بعد عودتهم وبدلا من أن يكونوا مشاعل تنوير في مجتمعاتهم نجدهم غالبيتهم انخرطوا في ثقافة البيئة واستغلوا علومهم ومعرفتهم في ترسيخ الثقافة المادية والسلوكيات الانتهازية ؛ وثمة شواهد تعبر صراحة عن هذه السلوكيات والرغبات والتي تتنافى مع الهوية الوطنية الجامعة ؛ وكمواطن أجدني أعيش حالة اغتراب في وطني لم اعيشها حين كنت مغتربا ..؟!
هناء حيث قضى الغالبية ردحا من أعمارهم يحملون الهم الوطني ناكرين أنفسهم ومصالح وحياتهم الشخصية ولم يكن يدور بخلدهم يوما أنهم سيجدون أنفسهم يواجهون كابوسا مرعبا يصحيهم من أحلامهم الوردية بالوطن والمواطنة والدولة العادلة وسلطة القانون حتى في كنف دولة ظالمة أو سلطة طاغية لا يهم فالمساوة بالظلم عدل المهم أن يكون هناك دولة ومؤسسات وسلطة حتى وأن كانت هذه الدولة ومؤسساتها وسلطتها طاغية وظالمة المهم أن الشعور بالانتماء للوطن وواحدية الهوية عوامل ومقومات تميز العلاقة المجتمعية بين أفراد المجتمع ؛ لكن الكارثة أن ينهار كل شيء ونجد انفسنا نتناحر على مصالح ذاتية ونمزق على أثرها نسيجنا المجتمعي ونوزع على بعضنا تهم ( الخيانة والعمالة والارتزاق ) و ( يكفر) كل طرف الطرف الأخر ونوظف في صراعنا كل المؤبقات المنبوذة اجتماعيا مثل المذهبية والطائفية والمناطقية والقبلية ناهيكم عن التناقضات الحزبية التي تم تسخيرها هي الأخرى وجعلها في خدمة تلك المؤبقات وبدلا من توظيف القيم والمفاهيم الحزبية واتخاذها كمنظفات لكل النعرات المدمرة للهوية والانتماء الوطنيين جعلنا المفاهيم والأفكار والقيم الحزبية في خدمتها ؛ بمعنى أوضح إننا وبدلا من تحزيب القبيلة واستيعاب أصحاب المشاريع العصرية والطائفية والمناطقية قبيلنا الأحزاب وعنصرنا المسميات الحزبية التي تبنت للأسف ثقافة طائفية ومناطقية ومذهبية ودقت أخر مسمار في نعش الأمل الوطني والهوية الوطنية الجامعة .!!
لقد سقطت المسميات الحزبية بكل شعارتها وافكارها وأيدولوجيتها كما سقطت القبيلة بكل رموزها وقيمها الأصيلة وسقطت معها كل المرجعيات الاجتماعية وتاهت بعضها وتوارى بعضها خلف الجدران صامتا مكتفيا بالتأمل معبرا عن عجزه الفعلي في الوقوف أمام طوفان العبث والفوضى وأمام هذا الواقع كانت ( الذات الفردية ) هي الأكثر طغيانا وحضورا فأخذ كل فرد يبحث عن ذاته وعن مصلحته الشخصية وليذهب الوطن للجحيم .!؟
لقد انتهت القوى القومية عام 1978م وانتهت القوى اليسارية عام 1986م وما بقى من جيوبها سقط عام 1994م لنعود لرعاية ( العكاز القبلي ) الذي تكسر بدوره عام 2011م لندخل دائرة العبث والفوضى على أثر جائحة ( الربيع ) التي كشفت لنا إننا لم نكن شيئا يذكر فلا دولة كنا ولا سلطة ولا مؤسسات ولا جيش بل كنا نعيش في كنف مراكز قوى تتبادل فيما بينها الخدمات والمصالح وتحكم وتتحكم بالقطيع ..؟!!
وسأضل مؤمنا أن ما حدث في 2011م لم يكون ( ثورة شعبية ) بقدر ما كان ( ثورة رموز القبيلة ) ضد بعظهم بعد أن تعاظمت قدراتهم واتسع نفوذهم وأصبح كل طرف يرى نفسه ( ملكا ) على القطيع وصاحب الحق في تملك وإدارة القطيع ..؟!!
لكن يبقى السؤال هو عن المزاج الشعبي الأن وأين يتجه ؟ وكيف يرى ويفكر الغالبية العظمى من أبناء اليمن اليوم ؟ وما هي قناعتهم في كل ما يجري بعيدا عن الشعارات التي يسوقها أباطرة الصراع في كل الاتجاهات .؟! هذا ما سوف نتناوله في الحلقة القادمة بأذن الله .
يتبع |