ريمان برس- خاص -
وصلت إلى منزلنا المتواضع بعد سنوات طويلة من الغيبة وكانت شقيقتي في انتظاري وأبنتها ( زوجة الولد زكريا ) وأحفادي ليلي زكريا وليث زكريا ؛ وأعترف أن الفرحة باللقاء غمرتني وشعورا لا يوصف انتابني وأنا أعود للمنزل والقرية ؛ لكن منذ لحظة تكحلت عيوني بالمنزل وبأحجاره لم تغيب عني ( والدتي ) رحمة الله تغشاها وتسكنها الجنة فقد وجدت نفسي أستعيد ذكريات طفولة مؤغلة ؛ ذكريات محمولة بكل الاحلام التي حلمت بها طفلا وشابا قبل أن تكسرها عوائق الزمن ومطبات الحياة القاهرة ؛ وأعترف أنني وأثناء ما وقفت أمام باب المنزل وبجواري الولد نصر طه وبدون شعور كدت أدعي ( وأماه ) وهي الكلمة التي كنت دائما أرددها كلما أعود للمنزل سواء كانت العودة من قريب أو من بعيد ..المهم أصدقكم القول أنني في تلك اللحظة حضرة في الذاكرة كل مسارات حياتي منذ الطفولة والمراهقة والشباب والغربة والترحال ؛ لكن ماض ذلك المنزل كان هو الطاغ بكل تفاصيله منذ لحظة ولوجه ونحن أطفال ولم يكن أكثر من ( غرفتين ) بنية حجرة على حجرة بدون أسمنت وبدون ابواب وقد خصصت والدتي رحمة الله عليها غرفة ( للبقرة ) وغرفة لنا وأتذكر أول ليلة نمنا في منزلنا الجديد الذي كنت أرى فيه أغلى من( قصور سلطان بروناي ) وفيما وضعت الوالدة رحمها الله أمام باب ( البقرة ) _ زربة من شجرة العلب أو السدر ؛ فيما غرفتنا فرشت ب( حصيرة خزف ) لننام أنا وأخواني بفرحة لا تسعها السماوات السبع والأرض بطبقاتها ؛ فيما والدتي جلست القرفصاء على باب الغرفة تحرسنا ونحن نيام ..؟!!
أتذكر إن في صباح اليوم التالي مر الجد عبد الله سعيد من القرية المجاورة وكان _ رحمه الله _ قريب لوالدتي وصديق لوالدي ومهنته ( نجارا ) وكان لدينا ثمة ( برميل ) من مخلفات البناء فعمل على قطعه وتسويته وحوله إلى باب لغرفتنا فيما بقى باب الغرفة الأخرى الخاصة بالبقرة يغلق بأشجار السدر كان والدي رحمه الله في الحديدة وكان يعمل ( طبل ) ينقل الرسائل من سكان القرية إلى أولادهم وذويهم في المدينة ويحمل رسائل من المدينة للقرية وهي المهنة التي عمل بها بعد سنوات قضاها داخل المنزل لا يغادره الا إلى الجامع والعكس منذ عاد من غربته في ( أثيوبيا) التي قضاء فيها قرابة 40 عاما ..!!
في تلك الليلة التي لم أعرف فيها طعم النوم وجدت نفسي فعلا أعود لعمر السابعة والثامنة من عمري متذكرا كل أحلامي وكيف كنت أحلم أن أكون وماذا أريد أن أكون وهي الاحلام التي تبخرت لاحقا على صخرة الحياة ..
المهم في الصباح نزلت لزيارة قبر والدي ووالدتي وقرأة الفاتحة على أرواحهما الطاهرة ثم قمت بجولة بصرية على الأرض التي كانت بزمن والدي درة الأرض في القرية ولكنها اليوم لم تعد كذلك للأسف ..
كان يفترض في تلك اليوم أي اليوم التالي لوصولي أن أكون في ضيافة الشيخ عبد الغفور علي عبد الحق في ( حيفان ) ولكني اضطربت أن اعتذر له بسبب قدون بعض أفراد الأسرة لزيارتي من الأخوال والخالات والانساب والاصدقاء وأولاد العم المهم قضيت اليوم التالي بصحبة الأقارب من أفراد الاسرة وايضا في التأمل لحال المنزل الذي صار يحتاج للترميم والإصلاح بعد سنوات من الهجر والإغلاق وقد عادت إليه الحياة بفضل ( شقيقتي ) التي قررت هجر حياة المدينة والعودة للقرية برفقة أبنتها _ زوجة الولد زكريا وأولادها ليلي وليث ؛ ولم يجد الولد زكريا بد من الاستجابة لطلب ( عمته ) والعودة للقرية والارتباط بها من جديد وبفضلها تمكنت من العودة بعد أكثر من عقد من أخر زيارة قمت بها للقرية، واعترف انني ولأول مرة بدأت افكر جديا بالعودة للقرية والعيش فيها لما تبقى لي من العمر وهذا ما اطمح إليه واتمنى ان يتحقق بعون الله
والمثير أن زيارتي ربما قد اثارت فضول وغرابة البعض لدرجة أن أحدهم اتصل بي وبدلا من أن يرحب بي كأسلوب تقليدي متعارف عليه ؛ أتصل بي متسائلا عن سبب زيارتي ؟
الحياة في القرية قد تكون اكثر من إيجابية ونموذجية بعد ان توفرت فيها كل مقومات الحياة الكريمة، لكن ما تحتاجه القرية هو وجاهات مسئولة منصفة وعادلة وذات مصداقية وتحمل قدرا من المشاعر الإنسانية والاحساس بمعاناة الناس والتعامل معهم بتواضع بعيدا عن ثقافة الغطرسة والتعالي وتصفية الحسابات والكيد وعدم التميز بين الرجل والمرأة في الخلاف والخصومة باختصار لم اجد في قريتي كبير ومرجعية يلتف الناس حوله ويتلمس همومهم وثمة من استغل راهن الحال وركب قطار التغير وراحلة المرحلة ولكن على طريقته، فيما الناس كلا في اتجاه وكل فرد يبحث عن ذاته وما يلبي رغباته بمعزل عن كل من حوله ناهيكم عن ثقافة كيد الاخر والانتقاص من الاخر والاصرار على تهميشه مقابل الانتصار للذات وحسب..؟!!
كثيرة هي القضايا التي لفتت نظري في قريتي والقرى المجاورة لها بل عما تعانيه مديرية حيفان بكاملها رغم الجهود التي يبذلها بعض المخلصين في المديرية وهذا ما سوف نتناوله في سلسلة الحلقات القادمة بأذن الله تعالي وبكل مصداقية وموضوعية وحيادية وانصاف.. وارجو من الله التوفيق
يتبع
[email protected]