ريمان برس - خاص -
بغض النظر عن تاريخ ما قبل ثورة 26 سبتمبر 1962 م الذي عرفه وعاشه أجدادنا في هذه البلاد في ظل طغيان عهود الأئمة المتعاقبة، فإن صراع ما بعد الثورة تميز بدوافعه الوطنية والرغبة في حياة الحرية والعدالة والكرامة والمواطنة المتساوية في كنف دولة النظام والقانون، ولأجل هذه الأهداف النبيلة دفع الشعب اليمني خيرة وانبل أبنائه وأكثرهم اخلاصا لهذا الوطن رغم ما رافق صراع ما بعد الثورة من مفاهيم (طائفية) مثل (ملكي وجمهوري) وان كانت الغالبية الشعبية قد انحازت بنخبها وجمهورها للصف (الجمهوري) ضد بقايا فلول عشاق الظلام وبعض المحاور الخارجية التي تؤمن بفكرة (أن تقدمها مرهون بتخلف اليمن) وان استقرارها مرهون ببقاء اليمن في حالة دائمة من عدم الاستقرار، والمؤسف أن هذه المحاور الخارجية وجدت في الداخل اليمني نخب انتهازية ارتهنت لها مقابل (المال) وراحت تشكل لنفسها ترويكا داخلية وتمكنت من أحكام سيطرتها على المصير الوطني وتداعياته، مستغلة الدعم الخارجي ماديا ومعنويا ووظفته داخليا في سبيل الانتصار لاهدافها، هذه الترويكا لم تتردد في لحظات شعورها بالخطر من المشروع الوطني الشامل، فسارعت في توظيف الهوية المذهبية (زيدي) و (شافعي) غير أن هذا المفهوم كان يستوطن الرموز النخبوية في الترويكا النافذة على المشهد الوطني، إذ وحين ذهبت رموز الترويكا القبلية ترسخ فكرة الاصطفاف القبلي (الزيدي) في مواجهة (الشوافع) الذين كانوا قد تجاوزوا هذه المفاهيم ببزوع فجر 26 سبتمبر 1962 م وتبنت نخبهم وبحماس فكرة الثورة والجمهورية والدولة والحرية والأنعتاق من كل براثن الماضي وادرانه متجاوزين مرجعياتهم المشائخية والاجتماعية رافعين شعارات التقدم والمساواة، مصنفين طبقات المجتمع بين (تقدمي) و (رجعي) لدرجة ان النخب التعزية وتحت شعار الثورة والتحولات التقدمية راحت تستهدف رموزها ومرجعياتها مؤمنة بأن ثقافة ما قبل 1962 م قد ولت واندثرت، مدفوعين بتجردهم من النوازع الطائفية والمذهبية وقناعتهم بواحدية الهوية والمواطنة، وهو ما لم يكن في حسابات الترويكا القبلية النافذة التي اضطرت لكشف بعض أوراقها في إحداث نوفمبر 1967 م ثم جاءت أحداث أغسطس 1968 م لتسقط الأقنعة عن هذه الترويكا التي كان يقودها الشيخ عبد الله الأحمر وبعض الرموز القبلية الملتفة حوله وبدعم ورعاية كاملة من أسرة (أل سعود) التي كانت حريصة على نظام الإمامة ليس حبا برموزه بل نكاية بالشعب اليمني حتى أن ملك السعودية فيصل وحين دخل عليه مدير مكتبه يبلغه بأن اليمن أعلنت الجمهورية رد على مدير مكتبه بقوله (الله يلعن الجمهورية ويلعن تعز)..؟!
كانت بعض الرموز الوجاهية التعزية وهي قلة صغيرة بالمناسبة وكانت معروفة بارتباطها بنظام ما قبل الثورة، قد التقت مصالحها مع بعض الرموز القبلية في صنعاء ووقفت ضد النخب السياسية والفكرية التعزية وكانت هذه الرموز حاضرة في انقلاب ٥ نوفمبر 1967م، ولكنها اضطرت لتعديل مواقفها بعد أحداث أغسطس وتعاملت مع شركائها من رموز القبيلة بنفس منطقهم وبقدر من الندية متمسكين بحقهم في الشراكة وتقاسم النفوذ، ومع ذلك لم تقبل الترويكا القبلية هذا السلوك من رموز ووجهاء تعز فعملوا على التخلص منهم..؟!
ما أود قوله إن ثقافة الصراع التي تبنتها الأطراف السياسية والوجاهية والاجتماعية اليمنية في إحداث ما قبل عام 2011م تختلف كليا وجذريا عن ثقافة برزت في خطاب هذه الأطراف بعد عام 2011 م، فقبل هذا العام كانت كل الثقافة القاصرة والممزقة للوعي والذاكرة الجمعية الوطنية محصورة في نطاق النخب، لكنها بعد عام 2011م صارت ثقافة شعبية تستوطن وجدان وذاكرة المجتمع الذي يعيش اليوم حالة تيه وتمزق نسيجه الاجتماعي وتبخرت من ذاكرته قيم الهوية والانتماء، وصارت النوازع (الذاتية) هي الطاغية في السلوك الفردي، وتستوطن وجدان المواطن البسيط قبل النخب الثقافية والفكرية التي تعيش بدورها في حالة يأس وإحباط وتعاني من عقدة الشعور بالانكسار والهزيمة أمام لوبيات النفوذ ورعاة (العمالة والأرتزاق) التي سيطرت على المشهد الوطني حتى عام 2011م..؟!
لقد اوصلتنا والوطن ترويكا العمالة والأرتزاق إلى ما نحن عليه اليوم والوطن على خلفيات سلسلة أحداث وتداعيات خاضتها النخب اليمنية ضد بعضها بفعل المؤثرات والرغبات الخارجية ولم تكن النخب السياسية والثقافية التي كانت وقودا لحركة التغير الاجتماعي وتحولاته وتقود المشروع الوطني _المفترض _تحقيقه من الانتصار لخياراتها وأهدافها في إحداث التغيير وبناء الدولة وترسيخ مقومات الاستقرار الاجتماعي، كل هذه الأحلام التي كانت محل الإجماع الشعبي تبخرت وتساقطت من الذاكرة كأوراق الخريف..
اليوم ثقافة الصراع أشد خطورة وأكثر إيلاما وتستوطن تجاويف الذاكرة الفردية اليمنية وهي عنوان التكتلات الكرتونية التي تعبر عن نفسها بقوة السلاح على الخارطة اليمنية التي تتجه نحو ما هوا أسوأ وأبشع واقبح من (البلقنة) و(الصوملة) و (اللبننة) وان كان اديبنا الراحل الاستاذ عبد الله البردوني _قدس الله سره _قد بشرنا ذات يوم خلال لقاء جمعنا بنائب الرئيس علي سالم البيض قبل اندلاع حرب 1994م بأن ثمة( اربع خرائط موجوده لتقسيم اليمن) وقالها حرفيا للنائب وان هذه الخرائط موجوده في (غرفتي نوم الرئيس والنائب)..!!
أزمة اليوم وثقافة المتصارعين لاشك انها عملت على تطوير هذه الرغبات وضاعفت من إعداد هذه الخرائط..؟!
يتبع |