ريمان برس - خاص - .........................
الأصل في وحدة 22 مايو 1990 هو الشراكة وليس الديمقراطية. والشراكة نوعان: شراكة وطنية وشراكة سياسية، وتنصرف الأولى إلى بناء دولة الوحدة على قاعدة التوافق بين الشمال والجنوب، بينما تنصرف الثانية إلى إدارة دولة الوحدة على قاعدة التنافس الديمقراطي بين الأحزاب والتنظيمات السياسية.
وعلى هذا الأساس ذهب الجنوب والشمال إلى الوحدة كشريكين وطنيين في بناء دولة الوحدة على قاعدة التوافق، بينما ذهب الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام كشريكين سياسيين في إدارة دولة الوحدة على قاعدة التنافس الديمقراطي.
أما أساس الشراكة الوطنية فهو حقيقة جغرافية-تاريخية مؤداها أن الجنوب جزء من اليمن وليس جزءا من الشمال، والشمال جزء من اليمن وليس جزءا من الجنوب، وهما بناء على هذه الحقيقة متكافئان في صياغة عقد الوحدة وفي تطبيقه بصرف النظر عن الفارق الكبير في عدد السكان. وفي كل الأحوال يجب أن نتذكر دائما أن الوحدة قامت بين دولتين وليس بين حزبين.
وبما أن الوحدة لم تقم على أساس فيدرالي مؤهل للتعبير عن الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب فقد كان علي صالح في هذه الشراكة يمثل الشمال، بينما كان البيض يمثل الجنوب حتى بدا الأمر كما لو أننا إزاء فيدرالية ذاتية بين الرجلين عوضا عن فيدرالية موضوعية بين الشطرين. وهذا الكلام ليس من تجليات كاتب هذه السطور ولكنه مبثوث في مقابلة مطولة أجراها نجيب رياض الريس مع علي عبد الله صالح ونشرها في كتاب له بعنوان "رياح الجنوب". والحديث عن شراكتين إحداهما سياسية والأخرى وطنية يستتبع تلقائيا الحديث عن فترتين انتقاليتين هما:
(1) الفترة الانتقالية للشراكة السياسية المحددة في اتفاق الوحدة بسنتين ونصف، ولها بعد قانوني يغلب موادا في اتفاق اعلان الوحدة على مواد في الدستور، ومهمتها انهاء مظاهر التشطير بدمج مؤسسات الدولتين، وتنتهي بإجراء انتخابات نيابية تنتقل معها دولة الوحدة إلى الوضع الدستوري الكامل الذي يحرك الشراكة السياسية من الهامش إلى المتن.
(2) الفترة الانتقالية للشراكة الوطنية: هي الفترة اللازمة للبناء الديمقراطي الكامل لدولة الوحدة وترسيخ نظامها السياسي. والغرض من هذه الفترة الانتقال بالشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب إلى شراكة سياسية كاملة بين اليمنيين. وهذه الفترة لا تقاس بالزمن وإنما بالإنجاز، ولا تنتهي إلا في ظروف اشتغال ديمقراطي طبيعي لمؤسسات الدولة والمجتمع بحيث إذا خرج حزب من السلطة بآليات الديمقراطية يستطيع أن يعود إليها بالآليات نفسها.
وبما أن الوحدة قامت بين دولتين وليس بين حزبين فإن دور كل من الرئيس والنائب خلال الفترة الانتقالية الخاصة بالشراكة الوطنية لا يتوقف على عدد مقاعد حزبه في البرلمان، وإنما على التكافؤ بين الشمال والجنوب في إعلان الوحدة وبناء دولتها. فالعلاقة بين الرئيس والنائب هي عمليا تجسيد للعلاقة المتكافئة بين الشمال والجنوب.
لكن بمرور الوقت لاحظ علي سالم البيض أن دولة الوحدة لا تسير وفق مسار الشراكة الوطنية المتفق عليها بينه وبين علي صالح، وأن الطرف الآخر ذهب إلى الوحدة بحسابات أخرى غير تلك التي أعلن عنها، واحتجاجا على ذلك مارس البيض اعتكافين صامتين في معاشيق بعدن. وأثناء الاعتكاف الثاني كان موعد الانتخابات النيابية يطرق الأبواب، وكان الطرف الآخر يستعجل هذه الانتخابات لإنهاء الفترة الانتقالية، ولهذا اضطر الرئيس صالح أن يذهب شخصيا إلى معاشيق ليسترضي نائبه.
في ذلك اللقاء الاسترضائي أصر البيض على توثيق الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب بأثر رجعي بصياغة وثيقة سميت "وثيقة التنسيق والتحالف على طريق التوحيد بين الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام" التي انهت الاعتكاف الثاني وهيأت المناخ السياسي لإجراء انتخابات أبريل 1993 النيابية. وقد نصت تلك الوثيقة على إدخال تعديلات دستورية جوهرية بعد الانتخابات النيابية تتضمن ما يلي:
(1) إلغاء مجلس الرئاسة واستبداله برئيس ونائب ينتخبان مباشرة من الشعب في قائمة واحدة.
(2) تشكيل مجلس شورى (ثلثاه بالانتخاب وثلث بالتعيين) تمثل فيه المحافظات بالتساوي، ويشكل مع مجلس النواب جمعية وطنية يرأسها النائب.
(3) أن تتمتع المحافظات وما دونها بحكم محلي كامل الصلاحيات.
(4) إجراء تقسيم إداري جديد للبلاد يزيل مظاهر التشطير وتعقبه مباشرة انتخابات المجالس المحلية.
وهناك بنود أخرى تتصل بالعلاقة الثنائية بين الحزبين، وفيها تم الاتفاق على التنسيق بينهما في مختلف المستويات التنظيمية في العاصمة والمحافظات. كما اتفق أن يشكل الحزبان كتلة برلمانية واحدة. أما توحيد الحزبين فقد ترك للمستقبل. والآن علينا أن نلاحظ ما يلي:
(1) من الوهلة الأولى يبدو أن انتخاب الرئيس والنائب من الشعب في قائمة واحدة مخالف لقواعد الديمقراطية والتنافس بين حزب الرئيس وحزب النائب. وهذا صحيح لو أن الحديث يدور حول الشراكة السياسية بين الأحزاب، لكنه يدور حول الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب. ثم أن الأمر هنا متعلق ببناء الدولة على قاعدة التوافق وليس بإدارة الدولة على قاعدة التنافس الديمقراطي. وفي عملية بناء الدولة الرئيس يمثل الشمال وليس حزب المؤتمر، والنائب يمثل الجنوب وليس الحزب الاشتراكي. فالوحدة تمت بين دولتين وليس بين حزبين.
(2) رئاسة الدولة للشمال، ونائب الرئيس والجمعية الوطنية للجنوب. (وكان منتظرا من التعديلات الدستورية المتفق على إجرائها أن تحقق التوازن والتكامل بين الرئاسة والجمعية الوطنية).
(3) أما ما يتعلق بالحكم المحلي كامل الصلاحيات فكان الغرض منه التخلص من مساوئ المركزية على النحو الذي يحقق الشراكة الفعلية بين اليمنيين في السلطة والثروة ويخلق شروطا موضوعية لتسريع عجلة التنمية.
بعد الانتخابات النيابية تشكلت حكومة ائتلافية من الأحزاب التي حازت على معظم مقاعد البرلمان وهي المؤتمر والاشتراكي وحزب الاصلاح. وقام البرلمان المنتخب بالتمديد لمجلس الرئاسة خمسة أشهر يتاح خلالها الوقت الكافي لإجراء التعديلات الدستورية المتفق عليها في وثيقة التنسيق والتحالف.
وفي هذه الأثناء سافر البيض في رحلة علاجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأثناء غيابه صوتت كتلتا المؤتمر والإصلاح (الأغلبية العددية) لصالح مسودة تعديلات دستورية تجاوزت كل ما نصت عليه "وثيقة التنسيق والتحالف على طريق التوحيد"، فلا صلاحيات دستورية للنائب، ولا انتخاب للرئيس والنائب من الشعب في قائمة واحدة، ولا جمعية وطنية يرأسها النائب، ولا حكم محلي كامل الصلاحيات.
ومن أمريكا نظر النائب إلى ما حدث على أنه انقلاب أبيض نفذته الأغلبية العددية الشمالية، وبدا له أنه لم يقد الجنوب إلى الوحدة وإنما إلى الضم والإلحاق، ولهذا قرر أن يواجه الانقلاب بإخراج أزمة الائتلاف الثلاثي الحاكم إلى العلن، ومن واشنطن عاد إلى عدن وليس إلى صنعاء، ومن هناك أعلن في أغسطس 1993 عن وجود أزمة داخل الائتلاف الحاكم أساسها عدم قدرة أطرافه على التوصل إلى تفاهم وتوافق حول بناء الدولة.
أنكر الرئيس صالح الأزمة وقال إنه لا وجود لها إلا في رأس البيض، واتهم هذا الأخير بالتمرد على الشرعية الدستورية والمطالبة بنصيب في السلطة أكبر من نصيب حزبه في البرلمان، وكأن الطرف الآخر في الوحدة هو الحزب الاشتراكي وليس الجنوب.
ومن جانبه رفض البيض الاستقواء بالأغلبية العددية داخل برلمان يتلقى التوجيهات من خارجه، وطلب من الطرف الآخر الاعتراف بالأساس الموضوعي للأزمة والاقبال على حلها بروح التفاهم والتوافق الوطني بعيدا عن مفهوم الأغلبية والأقلية وحسابات الربح والخسارة، فقضايا الخلاف كانت حول بناء الدولة (كدمج الجيش وتوحيده)، وهذه لا تحل إلا على قاعدة التوافق وليس برفع الأيدي في البرلمان. أما الشرعية الدستورية التي جاءت بها الانتخابات فهي ليست خالصة لتحالف المؤتمر وحزب الإصلاح دون الاشتراكي، ومن غير الجائز أن يحتكرها طرف واحد لمجرد أنه أغلبية عددية أفرزتها انتخابات في بلد يفتقر إلى الاندماج الوطني الحقيقي.
لقد كان البرلمان المؤسسة المنتخبة الوحيدة التي يمكن أن يعول عليها في حل الأزمة بإرغام الرئيس ونائبه على الخضوع المتساوي للمصلحة الوطنية العليا، لكنه كان من الناحية العملية برلمانين تحت قبة واحدة، والأغلبية فيه عددية نجمت عن التفاوت الكبير في عدد السكان وبواسطة انتخابات جرت في بلد يعاني من آثار التشطير ويفتقر إلى الاندماج الوطني الحقيقي. ولذلك تحول هذا البرلمان إلى ساحة اقتتال وظهر كجزء من المشكلة وليس جزءا من الحل.
وفي هذه الأثناء أوشكت الخمسة الأشهر التي مددها البرلمان لمجلس الرئاسة على الانتهاء. وحتى لا تدخل البلاد في فراغ دستوري تم انتخاب مجلس رئاسة على أساس 2-2-1 وفقا لما جاء في مبادرة من ثمان عشرة نقطة تقدم بها الحزب الاشتراكي لحل الأزمة. والجديد في هذا المجلس هو خروج المؤتمري عبد الكريم العرشي ودخول الاصلاحي عبد المجيد الزنداني.
وبهذا ظل نصيب الشمال في مجلس الرئاسة ثلاثة مقاعد مقابل مقعدين للجنوب، لكن وسائل الإعلام وزعت المقاعد بين الأحزاب الثلاثة وتحدثت عن نصيب لاشتراكي في مجلس الرئاسة أكبر من حجمه في البرلمان، وليس عن نصيب للجنوب أقل من حجمه ودوره في توحيد البلاد. وبهذه الطريقة كانت وسائل الإعلام تقدم الوحدة للرأي العام كما لو كانت بين حزبين وليس بين دولتين.
وبانتخاب مجلس الرئاسة لمعت في الأفق بارقة أمل سرعان ما تلاشت عندما أذاع الإعلام الرسمي في صنعاء أن مجلس الرئاسة انتخب علي صالح رئيسا وأن علي صالح عيَّن البيض نائبا له، وهذه صياغة خبرية مخالفة لمحضر اتفاق بين عبد الوهاب الآنسي وعبد الكريم الإرياني وجار الله عمر قضى بإخراج متكافئ لموقعي الرئيس والنائب. وبسبب هذه الصياغة المخالفة اعتذر البيض عن الحضور لأداء اليمين الدستورية أمام البرلمان يوم 16 أكتوبر 1993.
وبسبب عدم أهلية البرلمان للوقوف على مسافة واحدة من الرئيس والنائب خرجت الأزمة إلى فضاء الحوار الوطني الموسع الذي شخص الطابع الوطني العام للأزمة وصاغ الحل في وثيقة العهد والاتفاق التي كانت بمثابة اتفاق جديد على الوحدة شاركت فيه كل الأطراف السياسية في اليمن. لكن ميزان القوى في البلاد لم يكن لصالح تطبيق وثيقة العهد والاتفاق وبناء الدولة، وهذا يفسر الاندفاع السريع نحو حرب 1994 التي أخرجت الجنوب من الشراكة الوطنية مع الشمال وأبقت على شراكة سياسية شكلية بين الأحزاب مع إقصاء الحزب الاشتراكي الذي صودرت مقاره وأمواله وأصبح حزبا محظورا من الناحية العملية. |