ريمان برس -
ألف المفكر الإسلامي "محمد قطب" كتابا تحت عنوان "منهج الفن الإسلامي" حاول أن يطرح أسسا لنظرية إسلامية في مجال الفن، وقد اعتبر في كتابه ( أن الفن الإسلامي ليس هو الذي يتحدث عن حقائق العقيدة مبلورة في صورة فلسفية، ولا هو مجموعة من الحكم والمواعظ والإرشادات، وإنما هو أشمل من ذلك وأوسع، إنه التعبير الجميل عن حقائق الوجود من زاوية التصور) واعتبر أن كل الفنون الإنسانية التي أنهمك الإنسان في إبداعها وجعلها جزءا من حياته اليومية بما فيها الموسيقى والغناء والشعر والسينما والمسرح وكل المخرجات الفنية تعد جزءا أصيلا من الوجود الإنساني وهي كذلك في حياة الإنسان المسلم، طالما وهذه الفنون متصلة بالوعي الجمعي وتقوم بتأدية مهمتها في ترسيخ الوعي الجمعي للمجتمع وتساهم في تطويره وتقدمه الحضاري وتزرع قيم الحب والمؤدة والتألف في أوساط المجتمعات وتكرس في نفوسهم كل مقومات الأمل والتفاؤل مهما كانت قتامة الحياة قاسية.
ويمكن القول وفق هذا السياق أن ما قدمه عمالقة الفن اليمني الأساتذة الافاضل أيوب طارش وعبد الباسط عبسي من أعمال إبداعية تندرج تحت وصف المفكر محمد قطب ناهيكم أن الفنون بكل أشكالها ومدارسها تندرج في سياق التطور الحضاري للشعوب والشعب الذي لا يؤمن بالفنون لا يمكن أن يكون له علاقة بالتقدم والتطورات الحضارية بعيدا عن تفسيرات بعض الأصوات النشاز التي ترى في الفنون ( عدوا يجب مقاومته) وتحريمه خوفا من تأثير هذا الجانب على الوعي الجمعي الذي يريد منه البعض أن يبقى محصورا تحت سيطرتهم وهم بهذا السلوك يجترون أثر ( كهنة وأحبار بني إسرائيل) الذين أحتكروا لأنفسهم كل المعارف الدينية والدنيوية للمتاجرة والابتزاز وإصرارهم على تجهيل العامة وإبقائهم في دائرة التبعية لهم.
في هذه التناولة سأقف أمام ملحمة ثورية ونضالية
هي اغنية (وراعية) التي اتحفنا بها استاذنا عبد الباسط عبسي من كلمات الاستاذ سلطان الصريمي_ والتي سبق أن أشرت إليها في تناولة سابقة ولكن دون توضيح _ إذ يجد المستمع نفسه يستمع لملحمة ثورية وادبية واجتماعية، ملحمة نقلت معاناة شعب في وطن تنهشه غربان الفساد والقمع والاستبداد والطغيان، أغنية وراعية هي دعوة للثورة ضد حياة الظلم والقهر والتعسف والامتهان، قدمها الثنائي الرائع الاستاذ عبد الباسط والأستاذ سلطان الصريمي في مرحلة تاريخية كانت ولاتزال تلقى بتداعياتها على حياة الناس ورغم مرور عقود على خروج هذه الأغنية إلا أن من ينصت لكلماتها يجدها وكأنها تعبر عن واقع اللحظة الراهنة، ودعونا نقف أمام هذه الرائعة الإبداعية للثنائي الوطني والمناضلان اللذان دفعا ثمن إبداعهما وثمن إنتمائهما الوطني وانحيازهما للبسطاء والمقهورين من أبناء الشعب..
.. وراعية غني وشلي بالدان..
ما تنفع الطاعة ولا التمسكان.
وسلمي على نقم وشمسان..
سلام داَمٍ من بتول بهتان..
يا الله.. ما أعظم هذه الاستهلالة التي تحمل تأكيد على أن لا فائدة من طاعة الطغاة ولا جدوى من التمسكان أمامهم، وأن مواقف كهذه لا تنفع مع من جعل الاستبداد والظلم ديدنه.. ورغم حالة القهر ومرارته إلا إن ذلك لم يغفل الأنتماء الوحدوي للمقهور.
حسب_ فهمي المتواضع وقد أكون على خطاء_ فأن (الراعية) هي _ تعبير مجازي _استخدمه الشاعر والفنان وتعني (الغالبية المقهورة من أبناء الشعب) الذين عبرت الأغنية عن مظلوميتهم وحالة القهر والبؤس والحاجة التي يعيشها غالبيتهم ، وبلغة بسيطة وسلسلة يفهمها العامة من البسطاء دون تعقيد أو تعالي لغوي وبعيدا عن المفردات المبهمة.
ثم تتواصل المظلومية في سرد حياة ومعاناة المقهورين.. وهنا سوف اسرد بقية مقاطع الأغنية ليتأملها القارئ ويستوعب بقية محتوياتها.
وراعية أعمى الجفاف بلادي
زرعي إيبس ومات ضماء جوادي
ودمع المحبوب والمعادي
وراح مقتول الهوى فوادي.
...
وراعية كلمن حزب وعيد
وحزب الجهال وشقر الخد
وفرش الديوان وخضب اليد
وانا وحبيبي نصطلي ونقهد
...
َوراعية دهري زلج بواطل
من الغلاء والجوع والمشاكل
البئر نزف وجفت السوائل
ودمع عيني عالخدود سائل
...
وراعية غنيِ وخبري العيد
أن الحبيب مهتان وفارغ الأيد
يشتي جديد يشتي سخي من الجيد
والناس لا منقود ولا مناقيد.
تلكم واحدة من الإبداعات الرائعة التي تعكس واقع اجتماعي كان ولايزل وسوف يستمر حتى نلحق بقطار العدالة الاجتماعية.. وهي بذات الوقت دعوة لرفض الظلم وضرورة مقاومته.
يتبع |