ريمان برس -
بداية أود القول أن الاستاذ والفنان الكبير أيوب طارش عبسي ليس مجرد فنان مبدع، ولا مجرد عابر سبيل في ذاكرتنا الجمعية، أيوب طارش أستاذ ومفكر ومبدع وفنان، أرتقي خلال مسيرته الفنية والإبداعية ليصبح لليمن الإرض والإنسان (إيقونة) وطنية أجتمعت فيها كل صفات المناضل الوطني والإنسان المفعم بمشاعر الوفاء والحب لوطنه وشعبه وأمته والإنسانية.. هذا المبدع الذي انطلقت مسيرته النضالية من محراب الشيخ محمد سالم البيحاني الهامة الدينية والمدرسة الأخلاقية المجبولة بكل القيم الدينية والمشاعر الإنسانية، ناهيكم أن الاستاذ أيوب ينتمي لأسرة عريقة في الأنتماء والتدين ومكارم الأخلاق وينتسب لأب فاضل أصابه الذعر حين علم أن ولده أيوب( يدندن على ألة العود) وبحكم النظرة العامة للفنان والعازف في تلك الفترة من تاريخنا فقد رأي الوالد ما أقدم على الأبن وكأنه (رجسا من عمل الشيطان).. لم يكن يدرك والد الاستاذ أيوب أن ولده سيغير نظرة المجتمع للفن وسوف يؤسس مدرسة فنية مغعمة بمكارم الأخلاق، مدرسة حافلة بقيم الهوية والأنتماء للوطن الأرض والإنسان، وحافلة بقيم التصوف.. نعم اعطي الأستاذ أيوب للفن صورة غير تلك التي كانت قد كرست عن الفن والفنانين، وحمل فن أيوب قضية وطن وشعب، كما حمل أحلامهما وتطلعاتهما، وأسس لمدرسة فنية جسدت في إبداعاتها ومخرجاتها ما كان مكبوتا في الذاكرة الجمعية الوطنية، من أحلام وأماني راودت المجتمع اليمني في ريفه والحضر رغم ان رحلة الفنان والأستاذ أيوب انطلقت في لحظة كان فيه الريف والحضر في بلادنا يتماهيان في مشاهدهما باستثناء الحضور الشعبي في الحضر الذي كان بمثابة سوق كبير لكن الواقع ومشاهد البؤس كانت متساوية.
أنطلق الاستاذ أيوب في بداية رحلته الفنية من خلال محاكاة مشكلة اجتماعية شائعة _حينها _ هي مشكلة الهجرة والاغتراب فكانت اغنية (بالله عليك ومسافر) باكورة إبداع سيبلغ ذروته الوطنية و الأخلاقية، رحلة سجلت معالم التحولات الوطنية ورسم فنانا بريشته وأنغامه وصوته الشجي لوحة فنية إبداعية كانت أطيافها هي _ الكلمات _التي استطاع فناننا أن يصل بها إلى تجاويف الذاكرة الجمعية الوطنية، بل وجعلها تنحت وتخلد في ذاكرة الشعب لأنها حملت كل مفردات الصدق والوفاء والحب والاخلاص لتأتي اغاني الاستاذ أيوب طارش تباعا وكأنها تعبر عن تحولات المرحلة وترصد تقدم هذه التحولات، كما رصدت الوعي الجمعي لدى المجتمع بمختلف شرائحه وطبقاته الاجتماعية.
غنا الاستاذ أيوب للأرض والإنسان في وطنه، غنا للعامل في المصنع ، والفلاح في المزرعة ، والطالب في المدرسة، ، والجندي المرابط على مواقع الشرف ، غنا للمغترب الذي رحل عن أهله ودياره وفارق احبابه بحثا عن الرزق الحلال، وغنا للحب وسرد قصص والأم الفراق، غنا للأمل والحلم، وغنا للوطن، غنا للوحدة اليمنية، وغنا لصنعاء كما غنا لعدن، وغنا للحديدة، وتعز، وصعده، وغنا لكل الجغرافية اليمنية من صعده للمهرة ومن كمران الي سقطري، غنا وتغزل بحقول اليمن وسنابلها، وغنا للأودية وتغزل بها، كما غنا وتغزل بالسدود والتلال، تغزل فنا بتاريخ اليمن قديما وحديثا، وتغزل عشقا روحيا صادقا نقيا بهذا التاريخ، وغنا للمستقبل والحب والمؤدة والأمل القادم، أعاد الابتسامات لوجوه كانت الابتسامات قد غادرتها بفعل معاناة الظلم والقهر والاستبداد، الظلم والقهر والاستبداد في الوطن والسياسية والهوية والأنتماء وفي الحياة والحب وأصعب القهر، قهر الحب، واسوي الاستبداد، الاستبداد في الحب، وأمر الظلم، ظلم الحب، أيوب بفنه وأنغامه قهر كل عوامل القهر الاجتماعي الذي كان سائدا، وأيوب بفنه الإبداعي وسيرته العطرة والتزامه الأخلاقي قدم لوالده _أولا _ولمجتمعه وشعبه _ثانيا _على أن الفن إخلاق وقيم ورسالة وشكل اخر من أشكال التصوف وطريقة أخرى من طرق النضال الوطني، وأثبت للجميع أن الفن ليس (مجون) ولا هو طريقا للعبث والاستهتار بقيم المجتمع، بل رسالة أخلاقية، وعمل حضاري وطني ورافعة فكرية وثقافية واداة للتطور والتقدم الحضاري والإنساني.
أسس استاذنا ايوب طارش مدرسة فنية لم يسبق إليه أحدا قبله، وأن كان في السياق العام يأتي ظمن نسق تفاعلي على أساس أن لا شيء يأتي من العدم وإلا لذهب للعدم ذاته، كون الفن الإبداعي هو بمثابة بناء حضاري يرتفع بحكم التفاعل وكل جزءا من هذا البناء يستند للجزء الذي سبقه، فأن الاستاذ أيوب أحدث بفنه وأبداعه ما يمكن وصفه بالإنقلاب الإيجابي الناجح الذي اعطي للفن مهام إضافية ولم يحصره في النطاق الترفيهي، بل حوله إلى رسالة وطنية جامعة، وجعله شريكا فاعلا في التنمية الثقافية والفكرية والتحولات الحضارية الوطنية.
أن أيوب مدرسة للإبداع الفني الراقي، وجامعة وطنية تعلمنا منها الكثير عن الوطن والهوية والقيم والانتماء وتعلمنا الأكثر عن الحب والتسامح والولاء للأحباب والأسرة والمجتمع والأرض التي وجدنا عليها على مستوى _القرية الريفية _وعلى مستوى المدينة في الوطن.. هذا التفرد بالتميز جعل الاستاذ أيوب طارش يكابد الآمرين كي يصل إلى المستوى الذي وصل إليه وقد كافح وكابد واجتهد ونجح في تأسيس مدرسة فنية وإبداعية لايمكن لاحد أن يأتي بمثلها، أو أن يحمل قيمها الروحية والاخلاقية والإنسانية والحضارية والوطنية.
يتبع |