ريمان برس -

خلال المسيرة العُمرية هناك الكثير من الأحداث تدون في ذاكرة المر، وهناك ذكريات مكانية تبقى عالقة في الذاكرة مهما طالت المسيرة العُمرية وتداخلت الأحداث وتقلبات الأزمنة.. وفي ذاكرة كل منا الكثير من القصص والحكايات التي تبقى عالقة في الذاكرة مهما طال بناء العُمر ومهما تقلب بناء الزمن وتباعدنا عن المكان وتنوعت في مسيرتنا الأمكنة والأحداث والزمن والمتغيرات..
كنت في العاشرة أو أكبر بعام حين اندلعت حرب أكتوبر 1973م وكنت لا أزل في ( قريتي _قرية الذراع _حرف الأعمور _اعروق _مديرية حيفان _محافظة تعز).. في تلك القرية الصغيرة والقرى المجاورة لها وخاصة قرية (الفردمة) إحدى قري الأعروق، في تلك القرى النائية حيث لم يكن هناك لا تلفزيونات ولا موبيلات ولا شبكات تواصل اجتماعي، ولم يكن فيها إلا بعض (راديوهات) يعتدو بعدد الأصابع في كل المنطقة، وكانت هناك بعض إذاعات تتابع بواسطة تلك الراديوهات هي ( اذاعتي صنعاء وعدن) و ( إذاعة صوت العرب) و( إذاعة لندن) و إذاعة (صوت أمريكا) غير أن ( إذاعة صوت العرب) كانت هي الطاغية في إهتمام البسطاء من اهل قريتي وتحضي دائما بمتابعتهم ويسلموا بكل ما تبثه من أخبار بقلوب مؤمنة واثقة بما تبثه هذه الأذاعة، رغم ما قيل عن نكسة 1967م واحمد سعيد..؟!
أتذكر أن حرب أكتوبر كانت حاضرة في إهتمام أهل قريتي وأهل القرى المجاورة، فالحرب ذاتها كانت محل اهتمام كل بسطاء قريتي وهناك أيضا سبب أخطر بنظرهم وهو إلتحاق ( الشابين ثابت ونجيب) _ ثابت_  من قريتي و_ نحيب _ من القرية المجاورة وقد سافروا ليكونوا جزءا من أبطال أكتوبر وكان سفرهم الي ليبيا اولا ومنها إلى مصر المحروسة ليقاتلوا العدو الي جانب أشقائهم في القوات المسلحة العربية المصرية، وقد يكون هناك المئات وربما الالف من أبناء اليمن قد التحقوا المعركة، وربما كان أهلهم يترقبون اخبار الحرب بشغف عبر أثير (صوت العرب) علها تنقل لهم اخبار وبطولات أبنائهم، تماما كما كان  اهل قريتي  منهمكين بمتابعة اخبار أكتوبر وكأنهم سيعرفوا من أثير المذياع اخبار وبطولات (نجيب أنعم _وثابت أحمد)..!
كنت قريبا من (جدي احمد درويش _وجدتي ألوف) رحمة الله تغشاهما وتسكنهما جنات الفردوس الأعلى، وهما والد ووالدة أخي ثابت أحمد، الغائب والمكلل بدعوات والديه وتمنياتهما له بالعودة سالما ومنتصرا، فيما كنت اقابل العم ( السيد  أنعم قائد) في (سوق قمال) _الذي كان مجرد سوق يلتقي فيه الباعة والمتسوقين كل يوم احد، ولم تكن قرية قمال قد أصبحت كما هي الآن قرية مأهولة وكنت وانا متجه لمدرسة الشهيد عبد الرحمن مهيوب أنعم احد أبناء القرية الذي سقط شهيدا دفاعا عن ثورة 26 سبتمبر خلال ملحمة السبعين يوما،وتم تكريمه بأن حملت أول مدرسة في القرية اسمه تخليدا لذكراه.. كنت ما أن أجد السيد أنعم قائد _ رحمة الله تغشاه _أقف مبهورا امام ثقافته وهو يتحدث عن الحرب ويتحدث عن ابنه (نجيب) كان السيد أنعم يتمتع بشخصية طاغية بالحكمة والعقلانية والحصافة وكان المستمع إليه ينجذب لحديثه المليء بالمواعظ والحكم ولن انسي عبارته الشهيرة التي كان يرددها دائما لمن يتحدث مع الشباب (اسمع يا ولد)،لروحه السكينة والخلود، وطول العمر للأخ نجيب الذي تقاذفته الأقدار من منزلة الي أخرى.
كان اهل قريتي رجالا ونساء يلتفون حول المذياع الوحيد في القرية الذي يملكه اخينا _ عبده محمد مربوش _حفظه الله واطال بعمره، الذي لم يكن موجودا في القرية ولكن والدته جدتي _مسك أحمد _رحمة الله عليها، كانت تشغل الراديو في ( طاقة المفرج) وأمام منزلها وفي ( الدكة) المقابلة لدار عمي المرحوم محمد سعيد _رحمة الله تغشاه _كان اهل القرية يجتمعون لسماع الاخبار عن حرب أكتوبر وكأنها حرب قريتي وما أن تنتهي النشرة حتى استمع لحوار بين المستمعين رجالا ونساء وكل واحد يدلي بدلوه وانا مجرد مستمع اتذكر من الحوار دعواتهم الي الله أن ينصر العرب على اليهود،وان تتحرر فلسطين وتعود القدس والمسجد الأقصى للعرب والمسلمين..!
أنتهت حرب أكتوبر بنصر عربي، لكن لحقته هزيمة وجودية بدأت من هزيمة أحلام الناس الي هزيمة الأمة عاد أخينا ( ثابت أحمد درويش) من المعركة ليخوص معركة حياتية أشد قسوة ومرارة وعاش ولايزل حفظه الله ورعاه يعيش في وطنه مثقلا بهموم الأزمنة والأمكنة ورحم الله والديه ( جدي أحمد درويش _وجدتي ألوف) وبالمناسبة كان (ثابت) هو الأبن الوحيد لهما والي جانبه اخته (عمتي حمامة _رحمة الله تغشاها)..
فيما اخينا (نجيب أنعم قائد السقاف) غادر مصر بعد الحرب و التحق في ( جهاز الشرطة) في إحدى دول الخليج وقضى فيه عقودا حتى تقاعد وعاد ليعيش في وطنه واسأل الله له الصحة والعافية وطول العمر، فيما والده السيد أنعم قائد كان آخر عهدي به _رحمة الله تغشاه _ذات يوم مؤغل على (سطح سقاية السيد عبد الحليم ثابت قاسم) في القرية المجاورة لقريتي حيث لعبنا (البلط _أو البطة) ثم تفرقت بنا السبل وفرقت بناء الحياة وهمومها، حفظ الله اخي وصديقي ورفيق العمر السيد عبد الحليم ثابت قاسم واطال بعمره..!
قد يتساءل القارئي ما حكاية الكاتب لمثل هذه الكتابة، واقول ان مثل هذه الكتابة يفترض أن تكون من أولويات الكاتب لأنها تتصل بسيرة حياة وسردية لمشاعر برئية نسجها بسطاء صادقين ومؤمنين انقيا غير ملوثين، تجسد روابط حقيقية وإنتماء صادق جعل أهالي قريتي البسطاء ينشدون بكل حواسهم لحرب بعيده ودفعت شبابا من أبناء قريتي الي الذهاب بعيدا ليكونوا جزءا من تلك المعركة، ترى ما هي دوافعهم؟ وما هي دوافع بسطاء قريتي نساء ورجال وشيوخ وتفاعلهم المثير مع تلك الأحداث البعيدة؟
أتذكر وانا ( الطفل الصغير) تلك التفاعلات الإنسانية البريئة، التي شكلت لاحقا قناعتي السياسية والفكرية، وربما أن الأجواء الرمضانية التي نعيشها بتداعياتها الممتدة من رمضان 1973_وحتي رمضان 2025م كما أن متابعتي يوم أمس من إحدى القنوات فيلم عربي بعنوان (البيات الشتوي) الذي يحكي عن ( العهد الناصري) وتحولاته، عوامل دفعتني لهذه التناولة خاصة والفيلم قصته تعود للكاتب العربي ( محمد يوسف القعيد) صاحب ملحمة ( شكاوي المصري الفصيح) التي عبرا فيها عن أحلام البسطاء، فحفزني لتناول أحلام بسطاء قريتي التي كانت محرومة من أبسط الخدمات ومع ذلك كان كل من فيها منهمك بالهم الوطني والقومي..الأمر المهم أنني وصلت لقناعة إلى ضرورة وأهمية سرد حكاية وسيرة أبطال من ( قريتي والقرى المجاورة) بصورة خاصة ومن ( مديرية حيفان بصورة عامة) حيث أنجبت أبطال حملت سيرتهم حكايات كل حكاية منها يمكن أن تكون ملحمة وقصة لفيلم أو مسلسل ينقل للأجيال الحالية والقادمة سير لأبطال ربما تفوق بطولاتهم حكاية البطل العربي المصري (أدهم الشرقاوي) تراث ثقافي بسيط لكنه أكثر عمقا في بعده الإنساني والقيمي.. ولهذا اعتزم أن اختم حياتي بتناول قصص وسيرة أبطال من بلادي ومن قريتي والقرى المجاورة إنصافا لمن تركوا في ذاكرتي سيرهم.. وهذا ما سوف يكون بإذن الله.
صنعاء مساء العاشر من رمضان 1446هجرية.
الموافق 10 مارس 2025م