ريمان برس -
في المعلامة أو الكتاب وأثناء فترة تناول (العواف) _بلهجة قريتي _ وتعني الصبوح_ كان البعض يتناولون (العواف) بصورة جماعية أو كما كنا نسميه (خليط) أو مشاركة، وفي جلسة جماعية يضع كل منا ما جلبه من طعام من منزله ونتناول معا الفطور أو العواف، وكانت الظاهرة لا تخلوا من المشاكل التي تجعل (الفقيه) يعمل (عصاه الخيزران) على كفوف الطلاب ومن يمتنع خوفا يجد عصاء الخيزران تهوى على ظهره أو على أجزاء من جسمه عقابا له على ما ارتكب من مخالفة، التي يتسبب بها أحدهم فيكون العقاب على الشركاء ولم تكن المخالفة محصورة في اختلاف الشركاء وان (س) اكل أكثر من (ص) أو أن (و) اعترض لان (عوافه) كان أفضل من ( عواف) الآخرين وادسم..؟
بل كان يحدث أن يفرش الشركاء قطعة قماش ويضعوا فيها (عواف) الجميع، فياتي احد الشركاء فيلف تلك القطعة بما فيها ويهرب بها فترتفع أصوات البقية بالصراخ والبكاء ورحم الله اخينا ( عبد السلام سيف هائل) واسكنه فسيح جناته، الذي كثيرا ما تسبب بضربنا من الفقيه واتذكر جيدا إننا تعرضت للضرب من الفقيه بسبب اثنين من مرتادي الكتاب الأول هو المرحوم عبد السلام سيف هائل _رحمة الله تغشاه _والسبب انه كان أكثر شقاوة من الجميع وكانت شقاوته مثيرة، وكنت أضحك واعجز عن كتم ضحكتي فاتعرض للضرب والتانيب من الفقيه، وكانت علاقتي به في تلك الفترة تشبه علاقة (غوار الطوشي بحسني البرزان) فكان هو يرتكب المشكلة وانا ادفع ثمنها..!
الثاني كان اخينا (داود عبد المولى) الذي كان يمثل فينا حالة (ياسين بقوش) كان الفقيه رحمه يكلفنا بعد أن (اغيب) درسي اي احفظ السورة أو المقطع من كتاب الله فيطلب مني أن أحفظ ( داوود) واقضي معه ساعة لكنه لم يستوعب حفظ ( البسملة) فيمر الفقيه نحونا ويبدأ بسؤال ( داوود) فيتلعثم وفعلا يعجز عن قرأة (بسم الله الرحمن الرحيم)، فيعتقد الفقيه إننا مقصر ولم احفظه، وفي مثل هذه المواقف كنت افتح ارجلي للريح هروبا من عقاب الفقيه لكن كنت افعل هذا حين لا يكون المرحوم( شرف ناشر) موجود_ رحمة الله عليه _أو بوجود ( عبد السلام ناشر) _حفظه الله واطال بعمره_ ف(شرف وعبد السلام) هما اولاد الفقيه وكان إذا تمرد أحدنا أو هرب يتكفل هؤلاء بملاحقة المتمرد منا وأعادته إلى الفقيه لينال عقابه..بالمناسبة كان الفقيه ناشر _رحمة الله تغشاه إلى جانب شرف وعبد السلام اثنان اولاد كبار هما محمد ناشر الذي كان مغترب وكان يقال لنا إنه في (البحرين) وهذا لم التقي به والمرحوم محبوب ناشر وكان _حينها _احد الشخصيات الاجتماعية في القرية والمنطقة وقد ارتبطت بعلاقة متينة معه لاحقا..
اتذكر ذات مرة وكنا في موسم الأمطار أن طلبنا الأذن من الفقيه للعودة لمنازلنا وكنا أربعة وكل واحد منا اخترع كذبة للفقيه، واحد امه مريضة، واخر ابوه، وثالث سيذهب ينفع جدته وهكذا، وفعلا سمح لنا الفقيه _رحمه الله _بالعودة وليس بعيدا عن بيت الفقيه كان هناك (نبع ماء) ذهبنا للنبع والقينا جانبا ب( الاكياس أو الخرائط) التي فيها ( الواحنا ومصاحفنا) وجلسنا نلعب ونلهوا ونصمم حدائق ومزارع، وبقينا على هذا الحال لأكثر من أربع ساعات، فقد نسينا الوقت وأنهمكنا باللعب وفجأة سمعت صوت ( أمي) رحمها الله وهي تناجي الفقيه وتساله عني ثم بعدها سمعنا صوت ام اخي عبد الحكيم سعيد أحمد _رحمة الله تغشاها _والعمر المديد لأخي عبد الحكيم، ثم وجدنا أن امهاتنا نحن الأربعة قد تجمعين ب( راس المقروض) وهو سهل منحدر يفصل قريتنا عن ( وادي شعيب) قرية الفقيه حيث ندرس.. أخبر الفقيه _رحمه الله _امهاتنا بما قلنا له وعلى ضوئه سمح لنا بالعودة لمنازلنا ومن امهاتنا عرف إننا (كذابين) طبعا هربنا من حيث كنا وتفرقنا وكلا منا اختار له طريق للعودة والتفكير بماذا سنقول لامهاتنا وماذا سنقول بالغد للفقيه وكيف سنواجهه؟!
واتذكر إننا وعلى إثر هذه العملة تلقينا نحن الأربعة ضربا لم يتلقاه ( كلب في جامع)..؟!
ناهيكم أن الفقيه رحمه الله قرر عقابنا بأن لم يسمح لأي منا مغادرة سقف منزله حيث كنا نقراء فكنا ندخل منزله صباحا ولم نغادره إلا عند اذآن الظهر وهكذا ضلينا لاشهر..؟!
كان هناك ثمة إصرار سوي من الاباء أو الأمهات رغم تواضعهم على تعليم أولادهم وتاهيلهم، الأمر ذاته عند المسؤلين عن ( الكتاتيب) الذين كانوا يبذلون جهودا شاقة ومضنية في تأهيل الطلاب الوافدين إليهم وحريصين على بذل كل الجهود لتلقينهم كتاب الله وحفظه والعلوم الشرعية الأخرى..
كان من قريتي الأخوة جميل عبده محمد سالم،و شقيقه عبد الحكيم عبد محمد، وعبد الحميد محمد سعيد زيد، وعبد المجيد على مربوش، واحمد محمد مربوش، ومن قرية الإعدان المجاورة كان عبد الحكيم سعيد أحمد، ومن قرية العبادي المجاورة كان المرحوم مصطفى قائد دغيشر _ابن عمتي _وابن عمه صادق سعيد دغيشر _وآخرين اسف لعدم تذكرهم، ومن قرية النجد كان عبد السلام سيف هائل _رحمه الله _ومن قرية الطويل، كان داوود عبد المولى، وآخرين من قرية وادي شعيب، اتذكر منهم ان لم تخونني ذاكرتي ( أسباط الفقيه) منصور محمد مهيوب، وأخيه عبد الوالي، وكانت هناك أيضا (فتيات) في الكتاب، وكان وجود الفتيات في المعلامة ظاهرة تعبر عن وعي اجتماعي عميق بأهمية التعليم للأولاد والبنات رغم إننا _حينها _كنا نعتبر أنفسنا نعيش في مناطق نائية لا مشاريع خدمية فيها ولا طرقات ولا مياه ولا أيا من مظاهر التنمية، لكن كانت هناك أحلام تستوطن أولئك الناس الذين عشنا في كنفهم وهم مع بعضهم يتقاسمون المعاناة بصبر وامل في الغد القادم.
كنا نتشارك الأفراح والأحزان ونتقاسم الهموم وكل واحد سندا للآخر، لم يكن هناك توصيف للعرقيات ولا للانتماءات، وكأن في قريتي وافدين جاوا من محافظات أخرى للعمل فاستوطنوا قرانا وأصبحوا منا ولم يغادروا قرانا ولم يفكروا بالعودة الي بلدانهم الأصلية، كانت ( الجيوب فارغة) نعم.. لكن القلوب كانت عامرة بالحب والمودة والاحترام كان فينا (السيد الهاشمي) وكان فينا ( القبيلي، والرعوي، والفقيه، والبتول، والفلاح، والحٌمَارْ، والشاقي، كان فينا صاحب الدار الكبيرة المتعدد الطوابق وصاحب دار يتكون من غرفتين، غرفة له ولأولاده، واخرى( للحيونات _بقر وغنم) والمكانات الاجتماعية محفوظة والاحترام والتقدير حاضران في وعي الناس وثقافتهم، و( كان آل عوهج ) مثلا مصادر العلم والوعي والمعرفة، فكانوا فقهائنا وقضاتنا ورموزنا الاجتماعية، كما كان القاضي الشهيد شاهر داوود في منطقة الخطوة حيفان مصدرا من مصادر العلم والمعرفة ومثله في (قرية حُلامه) كان الفقيه عبد الحفيظ، وكانت مدرسته في ( قرية النجيد) والفقيه عبد الله عبد الرحمن، رحمة الله تغشاهم جميعا واسكنهم جنات الفردوس، وكانت مدرسة الفقيه عبد الله عبد الرحمن في ( قرية المحيقنة )، وكأن يجتمع فيها طلاب من الأعمور والزبيرة والأحكوم، ولم يكن هناك شعور ظاهري أو باطني بالتفوق العرقي، حتى على مستوى الترابط الاسري والانساب والمصاهرة، فكان القبيلي بتزوج من السيد والسيد يتزوج من القبيلي، ولم يكن هناك انتقاص أو تميز بالمهن ومن يمتهنها، بل كانت القيم والأخلاقيات هي الجامعة والمتحكمة بعلاقتنا الاجتماعية.. وكان الجميع رغم ضروف الحياة يعيشون في تناغم وسكينة وبرأة مثالية في كل مناحي الحياة الاجتماعية.
يتبع |