ريمان برس -
كانت الحياة في قريتي والقرى المجاورة هي إنعكاس لحالة عامة تعيشها منطقة الحجرية بكاملها، كان مغتربي هذا النطاق الجغرافي موزعين بين مدينة (عدن) وبين دول أفريقيا ومنهم تجاوز نطاق الاغتراب هذا الي (فرنسا وبريطانيا) والمغرب العربي، ودول جنوب وشرق اسيا..
كان الناس في قريتي والقرى المجاورة يعرفون بعضهم جيدا، وكل واحد يعرف ضروف الأخر، لم تكن هناك مشاريع مياه ولا (سقايات) كثيرة، ولا بيوت متناثرة على التلال والجبال والأدوية كما هو الحال الأن.. لكن كانت هناك (عيون مياه طبيعيه) تخرج مياهها من جوف الأرض ومن بطون الصخور، كانت الطبيعة تذرف لأهل المنطقة دموعها بصورة (ينابيع مياه) أنقى من المياه المعلبة التي تغرق أسواقنا اليوم.. وكانت مصادر المياه لقريتي والقرى المجاورة تأتي من (بئر حلامه) الواقعة أسفل قريتي ومن (حقف الداخل) الواقع في منتصف الطريق بين قريتي وقرية ( العرين) وأعلى قرية( وادي شعيب) وبينهما كان هناك ( نبع للمياه) يقع علي أطراف قريتي، وفي الجهة الأخرى كان هناك (حسوة الأمشح) الواقعة أعلى ( هيجة جبار) و(حسوة اللصبة) الواقعة بين قريتي ( الاعدان والأسلاف) وكان هناك (غيل ساري في هيجة الدقاقي) أسفل قرية( وادي شعيب) وأعلى من (بئر حلامه) كان هناك (بئر مضيض)،كانت هذه العيون الجارفة تروي عطش اهل القرية والقرى المجاورة، وكانت عند (النزف) بلغة قريتي وتعني شحة الأمطار، كانت النساء تقسم فيما بينها اوقات جلب المياه من هذه المصادر وكل قرية لها وقت في جلب المياه وكنت ارافق (امي)( لحقف الداخل) في بعض الليالي حين يكون (سرب نساء قريتي ليلا).. كان ( وادي حلامه) ملي بالأشجار المثمرة وكانت (الحوائط) جمع _حائط _والحائط مزرعة مليئة بالأشجار المثمرة حيث كانت هناك (أشجار البن، والليمون، والبرتقال، والمانجو،وكنا نسميها _حنون _ والفرسك، والزيتون _ الجوافة _ وفي قريتي كنا نطلق على الجوافة زيتون، والبلح، والعنب الفلفل، ) كانت هذه الحوائط تمتد على امتداد وادي حلامه _باتجاه وادي ( الزبيرة) و( هيجة الخلب) ثم باتجاه ( مفرق الأحكوم) وصولا إلى ( منطقة الخزجة)وحتى _ منطقة الضباب _ التي كانت تشتهر بالنخيل ، وكانت كل هذه_ الحوائط _ تعتمد على مياه الأمطار الموسمية لتروي عطش أشجارها وتربة تختزن في جوفها من الرطوبة ما يكفيها حتى عودة الموسم..
وحتى في جوار منزلنا كان و( الدي) _رحمه الله _قد زرع حول البيت (عنب الفلل، والليمون، والجوافة) واثمرت وذقنا ثمراتها..
كان هناك علاقة مقدسة بين اهل قريتي وبقية القرى في المنطقة مع الأرض التي كانت بدورها تجود بخيراتها على أولئك الناس وتعطيهم من خيراتها من المحصولات الزراعية بقدر ما يعطوها من الرعاية والأهتمام، واتذكر حين كان يحل ميعاد (الذري) أي زرع المحاصيل لم يكن الرعية يتأخرون عن البدء في الزراعة _التليم _ رغم عدم هطول المطر وكانوا ( يذرؤن عفور) فإذا تأخر المطر خرج اهل القرى وصعدوا جميعا الي راس ( جبل العراقي) ليصلوا صلاة الاستسقاء وكانوا يأخذون معهم ( رأس بقر _ثور أو عجل) يتشاركوا في قيمته ويقوموا بذبحه بعد أداء صلاة الاستسقاء وياخذ كل واحد حصته بقدر ما دفع من المال، ولم يكونوا يعودوا الي منازلهم إلا وقد استجاب الله لدعائهم وانزل عليهم خيره وبركاته ولم تغيب شمس ذالك اليوم إلا والقرى ممطورة والأحوال مليئة والسوائل تسيل بالسيول و( الحمد لله رب العالمين) تتردد على ألسنة الجميع..!
كان للأرض رغم أنها غالبا مجرد مدرجات صغيرة لكنها كانت تحضي باهتمام ورعاية أصحابها، ومع كل صباح جديد كنت تشاهد أصحاب تلك الأراضي مع اسرهم موزعين على تلك المدرجات يقلبون بمعاولهم ترابها، وكثيرا ما كنا نرى أصحاب تلك الأرض يؤدون صلاتهم ظهرا أو عصرا في تلك المدرجات، وكانت الأرض لا تخيبهم بل تعطيهم بقدر ما يعطوها من الرعاية والاهتمام..!
اقتصاديا كان هناك أسواق للتسوق والتبادل التجاري مثل (سوق الزبيرة) حيث ( الدكاكين) التي تلبي احتياجات اهل القرى المتشابكة وهي قري الأعروق، والصلو، وقدس، والأحكوم، وهناك كان ( الطاحون) الذي يستقبل حبوب اهل هذه القرى لطحنها،وبمناسبة ذكر (الطواحين) كان هناك ثلاثة طواحين تلبي احتياجات اهل تلك القرى، كان هناك طاحون بقرية (حلامه) تابع للوالد ( شائف عبد الله سالم) وطاحون ( على سعيد بوادي الزبيرة) واسفل منه (طاحون الوالد هائل شائف العامري) واعتقد كان هناك طاحون في مفرق( هيجة قرية نطق).. وكأن هناك سوق أسبوعي يقام كل يوم (ثلاثاء) اسمه (سوق الثلاثاء) يقع في أسفل قري الأعمور _امام ( مفرق الأحكوم) وكان ملتقى لكل قري المنطقة الأعمور _الأعروق _الاعبوس_الاغابرة _الآثاور _الأحكوم _ الصلو، قدس،معبق، وقري أخرى محيطة وكان ملتقى أسبوعي ضخم فيه يباع كل شيء من احتياجات الناس من الحيوانات الي الأطعمة والخضروات والاقمشة وكل ما يخطر ببال المتسوق يجده في هذا السوق..!
كان أهالي قريتي والقرى المجاورة يعيشون حياة التصوف، مؤمنين انقيا واتقياء صادقين في مشاعرهم الدينية، يخافون الله بجد، ومن يحيد عن هذه القيم كان الناس لايترددوا في التشهير بهم، وكأن الدليل على من يحيد هو (الظلم) فأذا ظلم أحدهم شخصا ماء قريبا أو بعيدا كان يُعرف بهذه الصفة فيبدا الناس بنقل حكايته حتى يرتدع أو يبقى مضرب المثل في أوساط اهل القرية، حتى يصل أمره إلى أصحاب الحل والعقد من وجهاء وشيوخ المنطقة الذين كثيرا ما اجبروا أمثال هؤلاء بالتراجع والأمتثال للحق وانصاف المظلومين.
يتبع |