ريمان برس -
في تلك المرحلة العُمرية من حياتي كانت قريتي والقرى المجاورة وتقريبا كل منطقة الحجرية تعيش حالة اقتصادية يمكن وصفها بحالة إكتفاء ذاتي، كان كل ما يستهلكه سكان تلك النطاقات الجغرافية منتجات محلية، لم يكن هناك شيء مستورد نستهلكه سوي (الجاز) الذي نشعل به ( الفوانيس، والاتاريك، والنوارات،) أو (الشول) التي كانت تستخدم للطبخ وكانت لا تتوفر في كل البيوت بل في بعض بيوت الميسورين في القرى، فيما الغالبية كانت تعتمد على (الحطب) في مطابخها أو في (الصعد)..!
كما كنا نستعمل (الجاز) في (عجن الرماد) الذي تخلفه نيران الحطب ونشكله مكعبات مدورة نضعها جنب بعض على امتداد سطوح المنازل في الأعياد الوطنية ثم نشعلها فتظهر القرى ليلا مشتعلة مساء ليلة 26 سبتمبر و14 أكتوبر كنا نرى قري العرين، والبرح، والاشعوب، وقري كريفة وخصلة، وكل قري الزبيرة قدس، حتى الأحكوم، والمقاطرة، والآثاور، تحتفي بهذه المناسبات وبطريقة موحدة وكنا في هذه المناسبتين نقضي ليلتنا نهتف ونصرخ من على اسطح المنازل، وعلى الطرقات وبكل برأة نهتف ونصرخ (نصر الله جمال) كنا نهتف بهذه الهتافات حتى بعد موت جمال عبد الناصر _رحمه الله _..!
كانت قرانا تعيش حالة إكتفاء ذاتي في كل الاحتياجات، مثلا (البصل، والطماط، والبقل، والكرث، والثومة، والجزر، والبطاط) ومعهم (القشقش) يأتي من قري (الصلو) والأواني الفخارية وبعض الاحتياجات تأتي من ( سامع) والفواكه بكل أشكالها تأتي من (الضباب) ومن مزارع الأودية الممتدة الي المحافظات الجنوبية، و(القات) كان يأتي من (شرار، وبني يوسف) وبقية المستلزمات التنموية كانت تأتي من ( سوق السبت) ومنطقة (طور الباحة)، واحيانا من سوق (راس النقيل) في مركز حيفان، وكانت هناك مقايضة اقتصادية تحصل بأسواق المنطقة، وهي أن تبادل بضاعة بأخرى دون أموال بل بضاعة مقابل بضاعة.. واتذكر ذات يوم ووالدي مسافر واشتي اسوق سوق الزبيرة وما فيش معنا فلوس قطعت شجرة (قصف) ونزلت بها الوادي وتسوقت تبادل اخذ من الجزار لحمة واعطيه قصف، ومن صاحب الخضرة اخذ خضرة واعطيه مقابل ما أخذت منه قصف، وكانت ارضنا مليئة باشجارها والقصف كان يستخدم (للكبي) أي _ لتبخير _ دبيات الحقين والجعانن) التي كانت نساء قرانا تحلب بها الأبقار ثم تصب ما فيها من حليب البقرة الطازج إلى (الدبيبة) و(دبشه) حتى يطلع (السقاء) الدهن الذي يتحول إلى سمن والقصف كان تبخر به ( الدبيات والجعانن) كي يعطي (الحقين) رائحة جميلة وزكية مع قليل من أوراق (العنشط) و_ العنشط _شجرة برئية تعطي رائحة زكية (للحقين)..!
لم يكن في تلك القرى (قمح استرالي ولا قمح أمريكي) بل كل الحبوب المتداولة والمستهلكة كانت من خيرات الأرض اليمنية، وحتي (السمن، والعسل، والبيض،) التي تباع بالأسواق كانت محلية من منتجات القرى.
كانت قريتي وكل القرى المجاورة تولي أهمية ( بأوليا الله الصالحين) وكانت تقام (الموالد) ومجالس الذكر والصلاة على رسول الله، وكأن والدي رحمه الله احد الفقهاء الذين يقرأون الموالد ويحبون مجالس الذكر، وفي قريتي والقرى المجاورة كان قراء الموالد ومجالس الذكر من (آل عوهج) وكان والدي والعم سلطان سعيد، والعم عبد الزغير عوض، والعم عبده محمد سالم، والعم محمد مربوش، قبل أن ينقلب الاخير على هذه العادة ويعتبرها _رجسا من عمل الشيطان_ كنت لصيقا لوالدي وارافقه في كل مولد يقام في القرية أو في القرى المجاوره،وكانت الموالد ومجالس الذكر تقام عند الولادة وعند الزواج وعند وفاة أحدهم كما كأن هناك ثلاث مناسبات سنوية تقام في المنطقة تسمى (جمع) وتعني التقاء اهل المنطقة عند ضريح احد أولياء الله الصالحين ليومين متتاليين هما السبت والأحد يأتي فيها الباعة والمتسوقين وتذبح في اليوم الأول _عقيرة _يدفع ثمنها أهل القرى لوجه الله وتقام المأدب في نفس المكان ومنها ما كان يأتي من بيوت القرية والقرى المجاورة، ويتناول الحاضرين وجبات الطعام في المكان و يقضون ليلتهم في الصلاة على محمد وآله وتلاوة القرآن والتغزل بسيد البشرية محمد عليه الصلاة والسلام، وكأنت هذه اللقاءات تعزز الروابط الاجتماعية ويلتقي اهل القرى بهذه المناسبات وتزداد الألفة فيما بينهم ويزداد ارتباطهم برسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام، كان في قريتنا (جمع العراقي) والعراقي هو أحمد محمد العراقي احد الصالحين الذين اقيم له ضريح في راس جبلنا وأطلق على الجبل جبل العراقي ولايزل الضريح قائما للأن، وفي قرية السكارنة وقرب قرية (قبر الجاهل) كان هناك (ضريح الحاج علي) وكان يقام له جمع سنوي، وفي منطقة ( الزبيرة قدس) كان هناك (جمع الوجيه) وكانت تقام لهم مهرجانات سنوية يلتقي خلالها اهل المنطقة والمناطق المجاورة، وكانت هذه المناسبات تمثل لسكان المناطق بمثابة عيدا سنويا يستعد له الجميع وكل ما يحدث في هذه التجمعات هو التسوق وذكر الله والصلاة على رسوله الكريم..وبرفقة والدي كنت احضر كل هذه التجمعات، كما كنت احضر مجالس الذكر وتعلمت قرأة الموالد من والدي ورغم صغر سني كنت اجلس بجواره واتلوا معه المولد واحيانا يكلفنا والدي بقرأة (المتن) الذي يتلي عادة قبل (القيام)..!
كانت الحياة بسيطة وسهلة ومن غير تعقيدات، وعبادة الله والألتزام بسنة رسوله حاضرة في وجدان وذاكرة أولئك الرعية البسطاء الذي كان إيمانهم بالله أقوى وأعظم وأكثر رسوخا وكذلك التزامهم بسنة رسوله الكريم، كانت القيم سائدة ومكارم الأخلاق ديدن الناس والتكافل والتراحم قائم بينهم رغم بساطتهم وضروفهم، لكن كان شعار الجود من الموجود سائدا في علاقة الناس ببعضهم وكانت الحياة حينها أكثر نقاوة وبرأة وكان (الطلاق) أن حدث في قرية من القرى تهتز القرى كلها حزنا على الحدث وغالبا ما يتدخل العقلاء لإصلاح ذات البين، فيما ( الزواج) كان يخيم بفرحه على الجميع والكل يبتهج بالمناسبة، و(الموت) أن حدث يخيم بحزنه على الجميع.. اعتقد كان الناس بشرا فعلا وأكثر انسنة مما هم عليه اليوم، ولم تكن ظاهرة (القتل) شائعة بقرانا وان حدثت جريمة قتل كانت الحجرية بكلها تهتز من الجريمة التي تبقى حديث الناس لسنوات..!
يتبع |