ريمان برس -
أفرزت الأزمة السياسية في البلاد منذ تفجرت عام 2011م عن حالة سقوط فكري وقيمي وإخلاقي، سقوط ما كان له أن يكون، لو كانت هذه النخب تتحلى وأن بقدر من الوعي الثقافي، أو كان لديها شيئا من قيم ثقافية تجسد هوية المكونات السياسية والحزبية التي تنتمي إليها وتزعم إنها تعبر عنها وملتزمة بأفكارها وأدبياتها.
اليوم وبعد هذه السنوات من ميلاد الصراعات يبدو المشهد أكثر قتامة وإجداب، فيما تعاني أطرافه من تصحر فكري وقحط إخلاقي، ومع ذلك يحاول كل طرف أن يظهر بمظهر المكابر الذي يعطي نفسه شرعية إمتلاك الحقيقة وكل ما دونه هم من جانبها..؟!
كان يمكن تبرير هذا النزوع _ النرجسي_الذي تحاول بعض المكونات الظهور به، ومحاولتها تبرير مواقفها وما اتخذته من إجراءات في مواجهة خصومها بأنه شكل من أشكال التماهي مع المتغيرات التي افرزتها الأزمة، والتي دفعت هذه المكونات النخبوية إلى مراجعة سياستها واخطائها وممارسة سياسة نقد ذاتي قاسية على نفسها، فيما اخر يرى وانطلاقا من مبدأ _الغاية تبرر الوسيلة _ أن معطيات ودوافع الأزمة أجبرته على أتخاذ مواقف قد لا تعبر بالضرورة عن قناعته، لكنها تمكنه من الحفاظ وأن على قدرا من مصالحه، وقد نجد آخرين يسوقون تبريرات وذرائع اقل ما يمكن وصفها إنها تأتي مجسدة للقول المأثور _عذر أقبح من ذنب _..؟!
لكن الأمر لا يقف أمام هذه الأنماط السلوكية للنخب المتصارعة، بل يتعلق الأمر بالثقافة والخطاب السياسي الذي اعتمدتهما النخب المتصارعة، بما يحمل من مفردات إنتقاصية من الذاتية والهوية المشتركة، مفردات حافلة بكل ما هو إنتقامي وحاقد تصل حد الفجور وهو ما لم يفترض أن تكون عليه هذه النخب التي تختلف _كما تزعم _من أجل وطن، ومن يختلف من أجل وطن يجب أن يكون لديه مشروعا وطنيا جامعا يسعى من خلاله لتحقيق مطالب كل أبناء الوطن بما فيهم من يختلفون معه..؟!
غير أن المؤسف أننا نشاهد ثقافة (ثأرية) مجبولة بكل مفردات الحقد والكراهية، ثقافة لا تليق بممتهني العمل السياسي الوطني أن يمتهنوها، أو تكريسها في الوعي الجمعي وترسيخها وكأنها ثوابت فكرية وسياسية وجزءا اصيلا من ادبيات وقيم ومنهج هذه الفعاليات..؟!
قد يكون من الصعوبة أن تستوعب كمراقب من يتحدث عن الحرية فيما يؤغل في مصادرة حق الأخرين في أن يتمتعوا بالحرية التي يحتكرها لنفسه ويحرمها على الآخرين، أو تجد من يزايد عليك بالديمقراطية فيما هو لا يقبل من الأخرين أن يمارسوا هذا الحق..؟!
أو تجد من يتحدث عن الوطن ولكنه يتحدث عنه وكأن الوطن إقطاعية خاصة به وبجماعته أو بحزبه وقبيلته..؟!
أو يتحدث عن تداول سلمي للسلطة، لكنه إذا وصل إليها صادر حقوق الأخرين وتنكر لهم ولوجودهم واحتكر السلطة له ولمن يوالونه، متجاهلا حين يصبح بالسلطة كل ما قاله حين كان خارجها..؟!
شخصيا ما كنت أتوقع ولا في الخيال أن أرى ( رموز قومية ناصرية) تعيش ( شهر عسل) مع أعداء وجودهم التاريخين، من حاربوا مؤسس المشروع القومي الناصري ولايزالوا يحاربون كل تراثه الفكري والسياسي؟!
والأكثر مرارة في المشهد أن ترى المثقف ( الماركسي _ والأشتراكي) وقد أصبح حليفا لقوى الرجعية والإمبريالية..؟!
والحال كذلك مع _الإخواني _ الذي أصبح أكثر (ميكافيلية) من (ميكافيللي)، مستبدلا ( كتاب الأمير) عن كتاب (معالم في الطريق)..؟!
ظواهر متناقضة مثيرة برزت خلال أزمة النخب اليمنية تعبر عن حالة جهل فكري وأمية سياسية سيطرت على هذه النخب، وسلوكيات إنتهازية مجبولة بكل مظاهر النرجسية ونزوع ديكتاتوري يؤكد حقيقة حالة الجهل التي تستوطنهم..؟!
في السياق راحت هذه المكونات النخبوية تتبني خطاب سياسي اقل ما يمكن وصف مفرداته بأنها (منحطة) للأسف روجوها بين أتباعهم ليواجهوا بها خصومهم، الذين بدورهم لم يكونوا مختلفين عنهم، وبين توصيفات التخوين والعمالة والتكفير والإقصاء والنكران والتنكر والتهميش راح كل طرف يطلق العنان لأتباعه ومناصريه في قدح الآخر بكل مفردات الإسفاف التي لا تليق بنخب سياسية تزعم _مجازا _إنها تتصارع من أجل الوطن..؟!
وبين (مجوس وروافض في صنعاء وعملاء لإيران) إلى (تكفيريين ودواعش ومرتزقة وخونة وعملاء لأمريكا وحلفائها)..؟!
في مشهد تنابزي يصعب بل يستحيل أن يستقر الوطن والشعب في ظل هكذا خطاب متبادل بين أطراف الخلاف، الذين يؤغلون في سياسة تمزيق المواطنة و الوعي والهوية والجغرافية، وفي ظل واقع مؤلم كهذا فأن الاستقرار وانتهاء الصراع يعد من (رابع المستحيلات) بعد (العوج، والعنقاء، والخل الوفي) كما يقال في امثالنا العربية، لأن نخب تمارس السياسة بهذه العقليات الجنونية، لا يمكن الرهان عليها في حماية الوطن والشعب أو إعادة الأمن والاستقرار لهما ..؟!
يرافق كل هذا النزق النخبوي تكريس حقائق ووقائع مادية على الأرض، حقائق ووقائع تفرض على الجغرافية خيارات تتماهي مع الخيارات السياسية والفكرية وتلك جريمة ترتكب بحق الوطن والشعب على يد هؤلاء الذين يمارسون السياسة على طريقة ( المصارعة الرومانية القديمة)..؟!
للموضوع تتمة
21 إبريل 2025م |