ريمان برس -
تعتمد كل من " روسيا" و" الصين" في صراعهما الجيوسياسي مع " أمريكا" و" الغرب" إستراتيجية " سياسة إنهاك الخصم" بتوصيف أدق يمكن تعريف هذه الاستراتيجية بأنها تلك التي كان يعتمدها الملاكم محمد علي كلاي في" حلبة الملاكمة" وكانت تسمى "رقصة إنهاك الخصم" إذ يتعمد إنهاك الخصم ويستنزف قوته قبل أن يوجه له "الضربة القاضية" وكان محمد علي هو من ابتكر هذه المعادلة..؟!
روسيا والصين تبدوان على توافق تأم في اعتماد هذه السياسية مع أمريكا والغرب، فهما يلعبان أدوارهما الجيوسياسية بكثير من الهدو والصبر ويعززان وجودهما وعلاقتهما مع دول العالم وحريصان حتى على تعزيز علاقتهما ب" واشنطن "ودول الاتحاد الأوروبي ومع حلفاء أمريكا في العالم، بما يحقق مصالحهما الداخلية مع هذه الدول بعيدا عن تدخلاتهما المباشرة في الأحداث الدولية، بما فيها تلك المتعلقة بحلفائهما التقليدين على الخارطة، بل يتغاضيان عن أفعال "واشنطن" و "الغرب" ويسهلان لأمريكا رغباتها، وهما على يقين بأن المزيد من الغطرسة والهيمنة لأمريكا، تعني لهما المزيد من الأزمات لها، وكلما تورطت "واشنطن" أكثر بأحداث العالم، كلما زادت النقمة الدولية عليها وعلى سياستها، وأتسعت أزمتها الداخلية التي ترتد على إدارتها بصورة أزمات داخلية مركبة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية..؟!
ومع كل أزمة أو حدث تفجره أمريكا وتتسبب به على خارطة العالم، ترى فيه " موسكو "و" بكين" إنتصارا لهما في مسار صراعهما الجيوسياسي مع واشنطن..!
نعم تنهمك اليوم "موسكو" في ترتيب وضعها الداخلي وتحديث عقيدتها الجيوسياسي بابعادها الاستراتيجية، وأهمها الحالة _ الأوكرانية _ التي تخوضها ليس في مواجهة _ السلطة الأوكرانية_ ممثلة " بنظام زيلنيسكي" الذي صمم _ أمريكيا وأوروبيا _ لمواجهة تطلعات _موسكو _وقطع طريقها نحو أهدافها الاستراتيجية، ومحاولة أمريكية _غربية لاحتوائها، وعدم السماح ل"موسكو" بأن تستعيد دور ومكانة الاتحاد السوفييتي ونفوذه على الخارطة الدولية..؟!
"بكين" بدورها يطبق عليها _أمريكيا وغربيا _ ذات السيناريو المطبق على " روسيا الاتحادية" من خلال أوكرانيا، و"تايوان" هي " أوكرانيا الصين" وبحر الصين هو "البحر الأسود"..؟!
الفرق بينهما أي بين "موسكو" و "بكين" هو أن "الدب الروسي" تحمل الكثير وصبر أكثر، لكنه فقد صبره عام 2014م حين وجد الخطر الوجودي يطرق بابه فتحرك بكل ثقله بادئيا بالمناورة مستعينا ب"رقصة الفلامنكو" وإيقاعها المتسارع للفت الأنظار والتحذير من القادم، الذي جاء بحلول عام 2022م الذي أجبرت "المايسترو" ليدخل" حلبة الرقص" معلنا تمرده على سياسة التطويع والأحتوي التي تحاول " أمريكا والغرب" فرضها عليه، لأن " الشعور بالاختناق" فعل مؤلم..!
عكسه تماما كان" التنين الصيني" الذي يجد فن "الرقص" على التضاريس كما يجيد فن التنكر والتلون، معتمدا على الألوان الطاغية التي يسحر بها عيون المتفرحين، ويرسم على وجوههم ابتسامات الفرحة والأمل..؟!
لذا اعتمدت" بكين" سياسة " الرأسمالي المقنن " الذي يهمه تسويق بضاعته، ولديه القدرة والصبر على تحمل نزق المنافسين، ومتجاهلا مضايقتهم، مؤمنا بالحكمة القائلة للسيد المسيح عليه السلام "من لطمك على الخد الأيسر، أدر له خدك الأيمن" ومتعضا بحكمة أخرى تقول " الضربة التي لا تسقطك تقويك"..!
بسلاسة تنساب قدرات الصين الاقتصادية على خارطة العالم، ولدي "بكين" إستراتيجية تسير في طريقها والمتمثلة بتعزيز قدراتها الاقتصادية التي ترى فيها وسيلتها في المواجهة الجيوسياسية، وهي وسيلة سلمية ليس فيها مسارح عملياتية ولا "سلاح قاتل ولا جيوش تشتبك " بل مسرح عملياتها المصانع والبورصات والبنوك، لكنها تشعر بالسعادة حين تشاهد أمريكا تعيش أزمات متعددة على خارطة العالم، أزمات تفقدها الكثير من القدرات المادية والمعنوية وتزيد من غضب شعوب العالم عليها، وينعكس هذا الغضب على مواطنيها بالداخل واعتقد ان ما تنجزه أمريكا في صراعها الجيوسياسي خارجيا تفقد بريقه وأهميته داخليا، حيث برزت مؤخرا ما يمكن اعتبارها أزمات سياسية داخل المجتمع الأمريكي، لكنها ذات أبعاد وجودية خطيرة لم تشهدها الدولة الأمريكية منذ تأسيسها..!
" ترمب" القادم من خارج ترويكا الدولة العميقة في أمريكا، كشفت فترة رئاسته الأولى والثانية عن أزمة تعتمل داخل هذه الإمبراطورية العظمى، تشير عن حالة تصدع سياسي واجتماعي في مفاصلها السياسية والاجتماعية، بدءا من التصرفات "الإمبراطورية" التي يمارسها "ترمب" والتي تذكرنا بحالة "نابليون" والثورة الفرنسية التي رفعت شعارات الحرية والعدالة والمساواة، في نفس الوقت استبدلت "الملك" بالإمبراطور، وأستبدلت " النظام الملكي" "بالنظام الإمبراطوري" وفقدت الجمهورية الفرنسية أهدافها وهويتها..!
" ترمب "يعيد تجسيد صورة "نابليون" والحالة الفرنسية، حيث ذهب بعيدا في إجراءات تنسف كل مقومات وأهداف _الحلم الأمريكي _ متجاوزا الدستور والمؤسسات الدستورية، أما حريات الرأي والتعبير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، فلا مكان لها عند "ترمب" وإدارته، وهذا ما يثير إعجاب" موسكو" و " بكين" اللتان تنظران لمثل هذا الحال الذي بلغته أمريكا وخلفها دول الترويكا الأوروبية، بأنه يمثل لهما حالة انتصار وإنجاز استراتيجي لهما على طريق صراعهما الجيوسياسي..؟!
خاصة ما يتعلق بدور أمريكا في المنطقة أو ما تسميه واشنطن ب الشرق الأوسط الذي غرقت بكل قيمها في مستنقعه ومعها غرقت أوروبا هي الأخرى، في سبيل إنقاذ " الكيان الصهيوني" من الغرق في مشهد سيدون في ذاكرة التاريخ والأجيال، وسيبقى حاضرا في الذاكرة الإنسانية مادامت الإنسانية عائشة على كوكب الأرض..!
وسيبقى وصمة عار إنساني وحضاري وتاريخي وأخلاقي يلاحق أمريكا والغرب، ب" لعنات" ستطلقها حناجر الأجيال القادمة لقرون..؟!
لأن" غزة وفلسطين" سوف تبقيان " العار" الذي أسقط قيم الإنسانية، وسيبقى يلطخ تاريخهم لقرون قادمة،وفي هذا ترى روسيا والصين ما يحدث على أيدي أمريكا والغرب في المنطقة فعل من نصرا لهم، لأنه يحصد المزيد من الحقد والكراهية ضد أمريكا والغرب..؟!
لذا نرى أن أمريكا التي دمرت نطاق النفوذ التقليدي لكل من روسيا والصين، في المنطقة وخاصة العراق، ليبيا، سوريا، وقبلهم مصر والسودان والصومال، واليمن، بدورهما يتوغلان في عمق النفوذ الأمريكي _الغربي، بل وصلا للمنطقة المحرمة عليهما أمريكيا _وغربيا وهي منطقة الخليج العربي التي تتحدث اليوم باللغتين الروسية والصينية، وهما عادتا الي مصر بثقل غير مسبوق ..؟!
فيما أفريقيا تكاد تبدو مسرحا روسيا وصينيا مغلقا، واسيا القارة الكبرى والأكثر كثافة سكانية وأكثر تعقيدا في الجغرافية والتضاريس والمزاج السياسي، يكاد "التنين الصيني" أن يخيم عليها بألوانه الزاهية بمعزل عن هدير بوارج واشنطن وحاملات طائراتها، التي تجبر على تزويد اطقمها بالأطعمة والأغذية غالبيتها مصنعة في الصين، فيما وقود البوارج وحاملات الطائرات المنتشرة في المحيط الهندي و الهادي وبحر الصين، قادم من حقول روسيا وإيران غالبا..؟!
خلاصة القول أن موسكو وبكين يعملان وفق سياسة تقود واشنطن إلى القبول والتسليم ب " الترجل الذاتي" من عرش الهيمنة دون الحاجة لإجبارها على فعل ذلك بالمواجهة المباشرة والسلاح..؟! |