ريمان برس - متابعات - محمد العرفج أديب وشاعر وروائي سعودي ارتبط اسمه كثيرا بالمشهد الثقافي اليمني من خلال عمله كسنوات في اليمن استطاع خلالها أن يقترب من التراث والأدب اليمني وقد تبلور ذلك على شكل عشرات الدراسات التي كتبها عن الأدب اليمني والشعر الحميني على وجه الخصوص ...كما صدرت له مؤخرا رواية بعنوان ( الدور الأعلى ) تدور أحداثها في البيئة اليمنية ... ومن خلال هذا الحوار نقترب من عوالم العرفج الأدبية وخلاصات ماكتبه عن الأدب اليمني.
• دعنا نتحدث عن قصائدك التي كتبتها عن اليمن والتي جمعت مابينها وبين نجد وقصائدك التي كتبتها أثناء إقامتك في اليمن .
نعم هناك أبيات وقصائد كتبتها عن اليمن السعيد ، وقصائد كتبتها أثناء إقامتي فيها ، فمن الأبيات التي كتبتها عن اليمن والتي انتشرت انتشاراً واسعاً في الأرض اليمنية هي:
تهتزّ أقدامي على تراب اليمن
لا شمّ صدري عطرها الزاكي شموم
وعيني امتلت بجنانها ووديانها
يزداد حبّي في هواها كل يوم
فكري علا بعلومها وآدابها
تنزاح منّه يابشر كل الهموم
• هذه القصيدة كتبت بلغة عاميّة فصحى مثل قصائد عبدالله عبدالوهاب نعمان ، وهو اسلوب غير موجود خارج اليمن .. هل كتبتها بعد قراءتك له؟
نعم كتبت هذه القصيدة بعد تأثري بقصائد الفضول ، وكيف لا أتاثر بالفضول وهو من أهم شعراء الحداثة الشعبيين في الوطن العربي وإن كان ظلم كثيراً في الإعلام العربي ، وقد كتبت عنه كثيراً في الصحف الخليجية .
• كيف ذلك؟
عبدالله عبدالوهاب نعمان –رحمه الله- يعد من أهم المجديين في القصيدة الشعبية ، فهو أول من أدخل فنون وأوزان الحميني في الشعر الشعبي الحرّ وأول من أدخل المفردة الفصيحة في الشعر الشعبي الحرّ ، فهو وإن كان قد أتى بعد جدّتنا منيرة المطلّق رحمها الله في كتابة القصيدة الحرّة ، إلا أنه سبق شعراء خليجيين وعرب إلى ذلك ، وتجربته تشابه تجربة يحيى عمر الذي أبتكر الصوت في القصيدة الشعبية لصالح الموسيقى ، إذ استفاد يحيى عمر من التجربة التهاميّة في فنّي الموشّحات والمبيّتات الحمينية ليدخل ثنائية القافية التي تسمى في الحميني المبيّت الثنائي ، كما أنه يعدّ من أهمّ المجدّدين للقصيدة الحمينية وتأثر به النبطيون مثل ابن لعبون الذي بدوره اطّلع بعد قرنين على تجربة يحيى عمر عن طريق الكويتيين الذين زاروا الهند واستمعوا لقصائده وأدخلوها في الصوت مع الموسيقى ، كما أنّه جدّد في الكلمة ، وقال قصائده على ألحان خاصة في القصيدة الحديثة التي نراها اليوم ولكن عن طريق استفادته من التجربة الحمينية في الأوزان والقوافي !
• برأيك كيف تقيّم تجربة ابن لعبون وتأثره بيحيى عمر؟
سبق وأن كتبت مقال نشر في جزئين في صحيفة "الرياض" السعودية استعرضت فيه العلاقات الحمينية النبطية وأدخلت الحورانية معهما ، وكان مما ذكرته أنه من خلال قراءتنا لقصائد يحيى عمر ذي القافيتين (ثنائية القافية) أنه سبق محسن الهزّاني فيها الذي عدّه باحثين ومؤرخين للشعر النبطي أنه من أوائل من نهج هذا الفنّ ، وقد فنّدت هذا في مقال لي نشر في جزئين بالخزامى بعنوان "الشعر النبطي وتأثره بالمدرسة الجنوبية" ويعدّ يحيى عمر أول من نظم على الطرق الهلالي (البحر الطويل) وتفاعيله (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن) على قافيتين قبل شعراء حمينيون كثر ، حيث أن بني هلال كانوا يشكّلون قصائدهم عدا القافية ، وأن المحققين أخطأوا في تشكيل قوافي الأبيات التي اوردها ابن خلدون لبني هلال في مقدمته ، وقبل ما يقارب 300 عام بدأ الشعراء النبطيون والحمينيون ينظمون الهلالي دون تشكيل ، فأصبح هناك نقص في نهاية الشطر الأول من البيت ، أدى الى عدم اكتمال الوزن ، وخروجه الى أوزان أخرى مثل المسحوب (مستفعلن مستفعلن فاعلاتن) ، لهذا نجد يحيى عمر مقلّداً في شعره شعراء تهامة الذين يعدّون أول من ابتكر ثنائية القافية ، واللحن الهجيني ، والمربوع (المروبع) وغيرها من الابتكارات التي سبقت الشعر النبطي بسبعة قرون كما عند ابن فليته والحكاك والعيدروس وغيرهم عبر فنّ المبيّتات ، فقد تأثر يحيى عمر بالشعر التهامي كما نجد في قصائده ألفاظاً تهاميّة وإبدال أل التعريف بـ "إم" التهاميّة كما في قصيدته الهلالية.
في الحديث عن بني هلال ، أنتَ تعدّ أول من اكتشف الموطن الأصلي لبني هلال بن عامر في دراسات كتبتها عن ذلك ، أعلم أن دراساتك طويلة حول هذا الشأن ، ولكن نريد باختصار أن تذكر لنا مكانهم التاريخي بالضبط ، وعن المعارك الصحفية التي جرت بينك وبين الباحث السعودي سعد الحافي .
سبق وأن ذكرت بأن مكانهم وموطنهم الأصلي هو في شبوة! وسبب تأخر ذلك هو التصحيف والتحريف الذي لحق بالأشعار الهلالية التي أوردها ابن خلدون في مقدّمته ، وأتذكر أن أول من أشار إلى وجود التصحيف والتحريف من قبل المحققين في الأشعار الهلالية الواردة في المقدمة هو شيخنا الدكتور سعد الصويان في كتابه (الشعر النبطي ذائقة الشعب وسلطة النص)، ثم كانت ماكتبته في عدد من الصحف السعودية والعربية كان أولها في جريدة الرياض ، ويبدو أن الحافي مطلع كثيراً على الموروث الشعبي والترنيم في البحر الهلالي، ولم يقع في الخطأ الذي وقع فيه الصويان حيث قطعها الأخير على تفاعيل البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن)، وقد اشتهر في النظم الطرق الهلالي في الخليج ثلاثة شعراء أحدهم توفي وهو ناصر بن مهدي الدوسري - رحمة الله - من قطر، والآخر تطوع وهو مسلم البحيري من الكويت، والثالث وهو فاضل الغشم من السعودية، والأخير كان قد أفاد شعراء كبار في نجد حين التقاهم ونبههم إلى الكسور في شعرهم الهلالي، حيث طبعوا دواوينهم بعد ذلك ولم يوجد كسر في قصائدهم التي على الطرق الهلالي.
وفي النظر إلى التعديلات التي تطرق إليها الحافي، هناك بعض الأمور التي أختلف معه فيها في حين أشد على يده في أغلب التعديلات التي وفق فيها، وأرى فيه صفات المحقق للمخطوطات ، والبيت الذي أورده الحافي بتعديله:
غدرني ذياب المستشيخ ابن غانم
وما كان يرضى زبن ضنبر وأميرها
وقد حاول الحافي تصحيح البيت إلا أنه أخطأ! إذ أن الصحيح (زين حمير) كما جاء في تحقيق المحققين لهاتين الكلمتين، حيث إن الشريف شكر بن هاشم، كان يقصد أن الأمير حسن بن سرحان الهلالي لا يرضى بالغدر ووصفه بأنه ليس أمير بني هلال بن عامر فحسب، بل هو زين حمير وأميرها! في نظرة الأشراف لأهالي اليمن على أساس أنهم حميريون.
سبق وأن تمّت دعوتك للقدوم إلى شبوة من أجل جمع السيرة الهلالية ، حدّثنا عن تجربتك .
قبل ثمان سنوات تقريباً ، وعقب عطلة عيد الفطر المبارك قمت بزيارة لمحافظة شبوة بدعوة من أمينها العام الأسبق للمجلس المحلّي للمحافظة د. ناصر باعوم التي يشكر عليها ، وقد استمرّت الزيارة لثلاثة أيام، حيث كان في استقبالي د. باعوم، وعدد من بطون قبائل بني هلال، ورافقته أيضاً أثناء زيارتتي لمناطق عتق وخمر ومرخة السفلى وغيرها من مناطق قبائل بني هلال، وكان هدف الزيارة بحث وجمع السيرة الهلالية وبدايتها من الأرض اليمنية وعسير ونجد والحجاز ، ومن ثم تغريبتهم إلى خارج الجزيرة العربية. وكان هدف زيارتنا هو بحث ونقاش وجمع السيرة الهلالية، وفعلاً قمنا بزيارة المناطق المسكونة بفروع قبائل بني هلال بمحافظة شبوة والتقينا بكثير من الشخصيات والمشايخ من كبار السن وجمعنا منهم الكثير من القصص والحكايات التاريخية المفيدة لنا وللبحث الذي نقوم به ، وقد نشرت عدد من المقالات والدراسات في مجلة «حبان» الثقافية مفادها أن بني هلال أول من نظم الشعر الشعبي، وانحدروا من اليمن وبالتحديد من محافظة شبوة. وقامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) بتشكيل لجنة تحكيم دولية، وبدعم الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية التي بدورها كونت أربع مجموعات من الباحثين لبحث السيرة الهلالية، جميعهم من مصر، وتم تجاهل الباحثين من بقية الدول العربية، ونشرت حينها مقال في جريدة «الحياة» اللندنية مفاده أنه تقع على (اليونسكو) مسؤولية جسيمة في دعم توثيق عرى الأمم والشعوب، وأن جمع السيرة الهلالية عمل تاريخي كبير يجب أن يتم إشراك الجميع فيه وأن يتم بالعقل والمنطق والحجة والبرهان الواضح، وأن ما تم جمعه وتوثيقه من قبل الباحثين المصريين يتم في اطار الخطأ الذي وقع فيه المؤلفون للسيرة الهلالية وتغريبتهم. وقد كان أن ما كتبته أعيد نشره في عدد من المجلات والصحف العربية واليمنية. الى ذلك قام مثقفون من اليمن برفع مذكرة حول ذلك الى وزارة التربية والتعليم، التي بدورها رفعت رسالة عبر السفير اليمني في (اليونسكو)، وقد كنت صاحب فكرة المشروع التي قدّم على أثرها المذكّرة ، وتفاعلت اليونيسكو وأوقفت الدعم المالي الكبير عن الجمعية المصرية .
أيضاً كنتَ من أقنع لجنة برنامج "شاعر الشعراء" في إدخال شعراء اليمن ومشاركاتهم سواءً من نقّاد ومحكّمين أو شعراء أليس كذلك؟
نعم ، هذا ماحصل بالضبط ، وقد كانت اليمن مستبعدة من المشاركة نتيجة سوء الفهم عن الشعر الحميني ، حيث اعتقدت اللجنة السعودية أن الشعر الحميني عبارة عن موشّحات فقط ولا يوجد فيه مايسمى المبيّت ، وقد ذكرت لرئيس اللجنة الناقد والشاعر الصديق فاضل الغشم فيما دار بيننا من حديث أنه في مسيرة مباحثي عن الشعر الشعبي اليمني بكل أشكاله وفنونه، قديمه وحاضره، تظهر ندوات وتكريمات وتذكارات، كما تؤسس الجمعيات في الجمهورية اليمنية، تجدّد نشاطي، وتدفعني للأمام لمواصلة مباحثي وعمل الدراسات عن الموروث الشعبي في بلدي الثاني. وأنه من أجمل ما سمعت هو تأسيس وإنشاء جمعية الشعراء الشعبيين التي رأت النور، في ما يثمر عنه من فائدة في جمع الشعراء الشعبيين، حيث أن الشعر الشعبي في اليمن له ألوان وفنون جمعت ما هو موجود في جميع البلدان العربية. فمثلاً يستطيع الشعراء الحمينيون كتابة الشعر العمودي الذي ينظم عليه الشعراء النبطيون في بلدان الجزيرة العربية والأردن والعراق وسوريا ، لأن لديهم من ينظمه في جميع محافظات اليمن وبلهجة واضحة لدى تلك البلدان هي اللهجة البدوية، وقد بدأ كتابة الشعر الشعبي العمودي قبيلة بني هلال، وكنت قد نشرت مبحثاً في مجلة «حبان» الثقافية في عددها (30) وجاءت تعقيبات عليه في الأعداد اللاحقة ، حددت فيها الموطن الأصلي لبني هلال في اليمن، وما زالت بعض البطون الهلالية موجودة في اليمن. كما أنهم - أي الشعراء الشعبيون في اليمن- يستطيعون بكل ثقة أن يكتبوا الشعر الحر الذي بدأ كتابته بالفصحى على المستوى العربي علي أحمد باكثير في حضرموت، وأبدع فيه بالشعبي عبدالله عبدالوهاب نعمان في تعز، وهذا الشعر موجود في جميع البلدان العربية.وكذلك لديهم من يكتب الشعر الغنائي في صنعاء ولحج وتعز وحضرموت بكل أشكاله، حتى الدان لديهم هو لون ليس موجوداً خارج اليمن. ولا ننس أن لديهم الموشحات في صنعاء والحديدة التي بدأ كتابتها ابن فليته في المئة الخامسة الهجرية، ويستطيعون أن يلقوها في أي قطر عربي إلى أسبانيا ليبرهنوا على أنه لون أسس الموشحات الأندلسية، كما أكد على ذلك الفنان الأستاذ محمد مرشد ناجي (المرشدي) في محاضرات ألقاها سابقاً في بلدان الجزيرة العربية. وكذلك فإنهم على هذا ينظمون المبيتات التي ينظم عليها الشعراء النبطيون، وقد أبدعوا في هذا الشكل قديماً وحديثاً. وهناك ما يسمى لديهم بقوافي الشطار التي كتبها أمثال الشيخ علي بن ناصر القردعي في مأرب والأمير أحمد بن فضل العبدلي (القمندان) في لحج، وما زالت قوافي الشطار ينظم عليها الشعراء الشعبيون في اليمن، فإن كانت كذلك فهي لون لا يوجد عند غيرهم، وإن كانت تحتوي على الجناس في قوافي صدورها وأعجازها، فهي أشبه بفن الدوبيت الذي يسمي في الكويت بالزهيريات. كما لديهم فن كان وكان، وفن القوما، وفن الحماق، وهذه الفنون منتشرة إلى أقصى المغرب العربي، ولا يفوتنا الزامل، وأيضاً السمرة الذي يشبه فن القلطة وفن العرضة. وشعر الرد بتركيبته في الجزيرة الذي يقوم على صفين متقابلين يقوم شاعر كل صف بإنشاد بيتين فيرددها الصف، ثم يقوم شاعر الصف بإنشاد بيتين فيرددها صفّه. وأغلب فنون الشعر يغنيها المطربون في اليمن بالمقامات اليمنية، ويشدون بها على الإيقاع والنغم، في الطول والقصر، في الجواب والقرار. وراهنت الغشم على أن الشعراء الحمينيين سيعجبون الشعراء الشعبيين في الوطن العربي، لا سيما الشعراء النبطيون في بلدان الجزيرة العربية، بإبداعاتهم، وبنظمهم الفطري على البحور الشعرية الغريبة والصعبة التي لم تصل إليهم، وذلك على أن يأخذوا بنصيحة العلامة محمد عبدالقادر بامطرف في الوزن على اللهجة الحضرمية التي هي لهجة مأرب وشبوة وصعدة وأبين، وهي اللهجة البدوية التي ينظم عليها الشعراء النبطيون لكي تفهم عربياً والتي نظم عليها قديماً بنو هلال بن عامر في اليمن ، وقد اقتنع الغشم وأقنع اللجنة بدراساتي التي قدّمها لهم حول الشعر الشعبي في اليمن ، وشاركت اليمن في البرنامج.
بما أنك أتيت على سيرة الفنان محمد مرشد ناجي رحمه الله قلت قبل أيام أنه أصاب في بحثه حول إرجاع أصل الموشح الأندلسي لليمن ، حدّثنا عن ذلك.
نعم فقبل سنواتٍ خلت جرت آنذاك معركة صحفية شهيرة بين الأديب والباحث السعودي د. عبد الرحمن الرفاعي (و 1952 م) والمؤرخ السعودي د.عبدالرحمن الأنصاري (و1935م) حول علاقة الأدب لدى الشعوب الشمالية والجنوبية، حيث يذكر الأنصاري أن الأدب قد جاء إلى الجنوب متأثراً بأدب الشعوب الشمالية، لكن الرفاعي رد بإثباتات أن الأدب قد بدأ لدى الشعوب الجنوبية ثم انتقل للشمال. ومن جملة ما رآه الرفاعي في أن أصل الموشح الأندلسي يمني، وله كتاب جميل من مطبوعات نادي جازان الأدبي سنة 1402ه بعنوان "الحميني الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي"، وكان من مراجعه "شعر الغناء الصنعاني" للمؤرخ الشهير د. محمد عبده غانم (1912-1994م) حيث يذكر الرفاعي في كتابه المشار إليه تحت عنوان "حقائق ارتباط الحميني بالموشح، الحقائق التاريخية" أنه في إلقاء نظرة فاحصة منصفة على فني الموشح الأندلسي والحميني في اليمن تتجلى حقيقة الارتباط بين هذين الفنين, وأن الحميني هو الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح وأن الحميني هو الارتباط الطبيعي لفن الموشح الأندلسي، وهو قول بناه على براهين أثبتت له أن الحميني هو الامتداد الطبيعي والمهد الأصيل للموشح وهذه البراهين ترتكز أساساً على قاعدة لا تحتمل – كما يرى – شكاً أو ريباً وهي: أن الموشحات في الأندلس ابتدعها شعراء يمنيون متأثرون بأشعارهم وأوزانهم الحمينية!. وقد أسهب الرفاعي في شرح أسباب ذلك نقتبس منها: أن معظم العرب الذين كانوا في جيش طارق ابن زياد يمنيون، وأن أكثر الشعراء ومعظمهم شعراء يمنيون من هذه القبائل من زمن الفتح إلى الاضمحلال، فلو أخذنا المجلد الثالث فقط من نفح الطيب الذي يبلغ حجمه (460) لوجدنا أن نسبة 95% منه شعراء يمنيون!, كما أن الموشح ظهر في الفترة التي كان حكامها يمنيين وعلى أيدي الشعراء اليمنيين، وأنه قد وجدت بعض النصوص التوشيحية قائلها يكشف فيها عن حنينه لموطنه الأصيل بلاد اليمن، وكأن الشاعر كان يحس أنه سيظهر بعد من يدعي ملكية هذا الفن!. ويورد الرفاعي موشحة طويلة للشاعر الاشبيلي منها:
لا تسمع من كان وكان
وانظر حقيق الخبر والعيان
يحال خيالي رجع ذا الزمن
فأحلى ما يوريك ديار غيبها وأخرج جوار اليمن!
وكما هو معلوم عن سوء توزيع الكتب المطبوعة في الأندية الأدبية داخل السعودية فما بالك بعدم خروجها خارج الحدود، وهذا ما حصل مع كتاب الرفاعي الذي لم يصل إلى اليمن السعيد. ومع ذلك فإنه بعد سنوات جاء الفنان والمؤرخ والباحث اليمني في الأدب والفن الشعبيين محمد مرشد ناجي "المرشدي" (1929-2013م) رحمه الله الذي يعد واحداً من أبرز وأهم ركائز الغناء التجديدي الحديث، بالإضافة لدوره البارز والهام والمؤثر بتقديم الموروث والفلكلور الغنائي اليمني بكل تلاوينه وإيقاعاته المختلفة والمتعددة بأسلوب رائع أخّاذٍ ومقدرة فائقة على محاكاة التراث في عدن والذي رحل الخميس الماضي بعد أن ترك أربعة مباحث هي: "أغنيات شعبية" و"الغناء اليمني ومشاهيره" و"صفحات من الذكريات" و"أغنيات وحكايات". ألقى المرشدي محاضرتين إحداهما في السعودية والأخرى في البحرين بعد أن مكث عقوداً من الزمن لبحث أصل الموشح الحميني وكذلك الأندلسي، حيث ذكر فيهما أن الموشح الأندلسي امتداد للموشح الحميني، وفي كتابه "الغناء اليمني" وهو المؤلف الوحيد الذي يتكلم عن الغناء اليمني ومأخوذ عما يزيد على ثلاثين مرجعاً وكلها من أمهات الكتب العربية مثل "العقد الفريد" لابن عبدربه و"الأغاني" لأبي الفرج و"مروج الذهب" للمسعودي وكتاب "تاريخ الموسيقى العربية" لجورج فورمر وهو أهم كتاب في تاريخ الموسيقىِ العربية ، وقد اتفق المرشدي مع ماذهب إليه الرفاعي إلا أن كلاهما لم يقرأ للآخر بالإضافة إلى أن كلاهما نحى منحى آخر في البحث فالمرشدي بحثه من خلال الموسيقى والرفاعي من خلال الأدب .
أنت تردّد كثيراً في الصحف السعودية والإماراتيّة ، وكذلك في اللقاءات التلفزيونية والإذاعية بالسعودية وعمان والأردن وقطر بأن الشعر النبطي تأثر بالمدرسة الجنوبية وعلى وجه التحديد اليمن وتهامة ، وشيئاً من عمان من خلال بعض الرموز ، وقد ذكرت هذا خلال حوارنا معك في إشارة إلى مقالك ، هل من الممكن أن تستعرض لنا أهمّ ملامح ذلك التاثر؟
إن أكثر ما يؤلم العقل المتفتّح هي رؤية بعض الشعراء النبطيين المعاصرين للشعر في الجنوب على أنه مجرّد موشحات حمينية ، وذلك من خلال قراءتهم – على سبيل المثال- للجزء الأخير من مجموعة «الأزهار الأزهار النادية من أشعار البادية» للشيخ السعودي محمد سعيد كمال رحمه الله، الذي وضع ذلك الجزء لموشحات الشاعر الرقيق علي الآنسي رحمه الله.
وليت ابن كمال لم يفعل حين جمع الموشحات، بل لعله أخذ المبيتات الكثيرة سواءً الحمينية أو غيرها من الزوامل والأشكال الأخرى! ليس من باب المحاباة، ولكنه من باب إحقاق الحق الذي يسمو به الرجال ويسمون به، فالعرب بسجيّتها لا تحب نسب مآثر الآخرين إلى أنفسهم! لذلك ارتأيت في دراساتي أن أعيد الحق لأصحابه وهم أهالي جنوب الجزيرة العربية الذين منهم بدأ الشعر النبطي ومنهم استفاد النجديون والحجازيون وغيرهم من الأقطار الأخرى خارج الجزيرة العربية فتلاقحت الأشعار الحمينية والحورانية والقيسية لتولّد النبطية!!
فمن نكران الجميل أن لا نعترف باستفادة الشعر النبطي من المدرسة الشعبية في الجنوب إلى أقاصي الجزيرة العربية، الذي بدأ مع الشعر الحميري باللغة الحميرية القديمة الراطنة، التي دوّنت مآثر الحميريين، كما دوّنت أشعارهم بالخط المسند القديم، في ما يعرف اليوم بالربع الخالي في المثلث الدولي الموزّع بين الخرخير السعودي والمهرة اليمني وظفار العماني.
ولعل الفن القائم في القصيدة القديمة حين قيلت باللغة الحميرية خير مثال على تأثر الشحرية والجبالية بظفار والبطحرية بجده الحراسيس في إقليم عمان، والسقطرية في الأرخبيل بالمحيط الهندي، والضنّية الكثيرية في حضرموت حيث سميت عمان وكذلك حضرموت نسبة إلى أخوان يعرب بن قحطان الذي كان يحكم من الأحساء إلى الجنوب النجدي ، ونرى مدى التأثر في جميع تلك الممالك بالتراث الحميري. فتلك القصيدة التي تدل على مدى ارتباط وزن القصيدة الحميرية بالموسيقى الطبيعية كضرب الأقدام، وهو ما عرف فيما بعد بوزن الناقوس في الشعر النبطي أو اللحن الحميداني، التي تكمن تفاعيلها ب (فعلن فعلن فعلن فعلن) في كل شطر، وهذا التأثر الحميري لم يتقوقع بل ذهب إلى العرب خارج الجزيرة العربية كالفينيقيين والأشوريين والكلدانيين والاموريين والأكاديين وغيرهم كالأنباط الذين ترجع إليهم تسمية الشعر النبطي، كما ذكر الشيخ محمد بن عبدالله بن بليهد رحمه الله.
ولعل الأوزان الحميرية التي أثرت بالأمم الأوربية في لغاتهم الرومانسية الحديثة وانتقل من الإغريق، وسمي الوزن أعلاه للقصيدة الحميرية عندهم بالوزن الأليجي تيمّناً ببحر إيجه الذي نقل لهم الأدب العربي القديم مع التجارة، وهي تمثل بداية الإيقاعات والألحان التي انتقلت للشعر النبطي، وليس العروض العربي الذي تأثر بالعروض الفارسي والهندي، ونرى تأثر لغة الفينيقيين وهي الآرامية السريانية في لغة جرهم وبعض مفرداتهم في عسير.
دعنا نأخذ محور أخير وبعيد عن مجال الشعر والبحث في التراث .. أنت تكتب القصّة القصيرة والرواية ، وأصدرت لك رواية بعنوان "الدور الأعلى" عن دار الغاوون البيروتية تحدّثت فيها عن اليمن ، كما أنك نشرت قصصاً في الصحافة اليمنية والسعودية تختصّ بالمجتمع اليمني ، لماذا لم تطبع تلك القصص؟
أنا في صدد طباعة مجموعتين قصصيتين بإذن الله ، وفيهما ضمّنت شيئاً من تلك القصص بالإضافة إلى قصص كثيرة لم تنشر وتتحدّث عن اليمن ، كما لدي ديوان خاص مهدى للشعب اليمني وأبحث عمّن يتبنّى طباعته من قبل وزارة الثقافة اليمنية أو الاتحادات والجمعيّات الثقافية والادبية ، وأنا بدوري عبر منبركم أقدّم الدعوة لأولئك ، بالإضافة إلى دراساتي ومباحثي حول الشعر والتراث .
الثورة نت |