ريمان برس - متابعات - خصّص مزاد "بونهامز" بهوليود، كاليفورنيا، كامل شهر أكتوبر-تشرين الأول 2012، لعرض مجموعة كبيرة من لوحات الجرافيتي تحت اسم "معرض الفن المَدِينِيّ".
جاءت فكرة تنظيم هذا المَزاد نتيجةً لِمَا تعرّض له فنان الجرافيتي "ماني كاسترو" من اتهامات بتخريب منشآت خاصة، على إثرِ رسمِه لوحةً سمّاها "للأذواق طعمُ الكراهية" على جدار مطعم "شيك فيل" بمدينة تورانس يوم 24 آب-أغسطس الماضي كرَدّةِ فعل منه على تصريحات تهكّم فيها الرئيس التنفيذي لسلسلة مطاعم الوجبات السريعة بهذه المدينة على كثرة تواجد المَثَليّين فيها.
وقد قال ماني كاسترو لصحيفة هافينغتون بوست: "لا أرى في لوحتِي جريمةً، بل هي نوعٌ من الاحتجاج ضد هؤلاء الناس الذين يحتقرون الإنسان، ويحاولون سلبَ ما بقيَ له من حقوق قليلة".
ولئن وجدنا في مزاد بونهامز للوحات الجرافيتي انتصارًا من أصحابِه لهذا الفنّ وسعيًا منهم إلى التعريف بقضايا فنّانيه ومواقفهم إلى الجمهور، فإنّ ذلك لا يجب أن يُخفي عنّا حقيقتيْن: أولاهما فنيّة، وصورتها ما صار لفنّ الجرافيتي من حضور قويّ بين سُكّان المُدُن الحديثة، وثانيتُهما اقتصاديةٌ، وتتمثّل في استثمار مُضَارِبي الأعمال الجدد للأنماط الفنية المهمّشة وإدماجها في دوراتهم الاقتصادية.
* أصالة الجرافيتي
لطالما اُعتُبر فن الجرافيتي عملاً تخريبيًّا للفضاءات التي يُرسَم فيها، لا بل كثيرًا ما عُدَّ تشويهًا لجمالية جدران المباني وواجهات المعالم التاريخية لمُروقِ أشكالِه وألوانه وكتاباته عن السائد العامّ من تصوُّراتنا عن الفنّ التشكيليّ. غير أنّ نظرًا في تاريخية الجرافيتي يُحيلُنا إلى مجموعة من المُعطيات التي تجعل منه فنًّا له جذور في تاريخ الإنسانية وله حركة تطوّرية في أشكاله وفي طرائق الابتكار فيه وكذا في اتجاهاته الفكرية.
ذلك أنّ كثيرا من الباحثين قد وجدوا في خربشات جدران الكهوف القديمة منذ أزيد من 11 ألف عام ما يمثّل البدايات الأولى لظهور هذا الفنّ، على غرار نقوش المقابر الموجودة بوادي الملوك بمصر وبالمعابد اليونانية، أو تلك التي عُثرَ عليها بكهف "لاسكو" بفرنسا، إضافة إلى لوحات كهف مدينة بومبي بإيطاليا و رسومات منطقة دجادي المغارة على نهر الفرات شمال شرقي مدينة حلب، ورسوم جدران الفايكنج في إيرلندا، ومغاور المايا بأميركا الجنوبية.
وهي رسوم تقدّم رؤيةً بصريّةً فيها كثيرٌ من الإيحاء الدّلالي والجماليّ بفضل حيويّة خطوطها وإشراقة ألوانها كالأحمر المستخرج من حجر الدم "خام الحديد الأحمر" والأبيض المشتقّ من حجر الجير المطحون والأسود الذي يُعمَلُ من الفحم النباتي، ناهيك عن جمالية المَشَاهِد المعروضة ضمنها ومنها خاصّة تلك التي تصوّر أحداثَ الصيد والحروب وما كان من علاقة الإنسان القديم بكائناتِ عالَمِ الموتِ والآلهة.
* فنّ على حافّة الهامش
وقد تعاضدت مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية في العصر الحديث لتنفخ الرّوح في هذا الفنّ وتُعيدَ له اعتبارَه الرمزيَّ من جهة كونه فعالية إبداعية تُحرّر صوتَ الإنسان من الصمتِ وتمنحه القدرة على الصراخ بصوتٍ مسموعٍ في وجه جميع ما يُثيرُ سخطَه من مجريات واقعه المعيش.
ولئن اعتبر الكاتب الفرنسي "براساي" في "كتاب الجرافيتي" الذي أصدره سنة 1960 أنّ الجرافيتي "فنّ خامّ وبدائي وهو سريع الزوال"، فإنّ أحداث مايو 1968 التي شهدتها فرنسا تدلّل على أنّ الجرافيتي، إضافة إلى الشعر، كان سبيل الشارع الباريسيّ وطلبته الثائرين إلى إعلان مطالبهم السياسيّة، كما أن عربات قطار نيويورك مثّلت فضاءً ليُعلنَ منه فنانو الجرافيتي فلسفاتهم الحياتيّة التحديثيّة التي مهّدت لظهور ثقافة الهيب هوب التي مثّلها الأميركيون الأفارقة منذ عام 1970.
وهو ما يؤكّد أنّ هذا الفن قد وَجَد في التوتّرات السياسية وفي حركات التحرّر والثورات والحروب التي شهدها الإنسان الحديث منذ الحرب العالمية الأولى وإلى حدّ ثورات الربيع العربيّ موضوعاتٍ جديرة باهتمامه، و يمكن أن يُوجِّه ضمنها فنّانوه رسائل سياسية واجتماعية وثقافيّة إلى الجماهير وصُنّاعِ القرارِ فيها. بل هو مجال لتجسيد الرغبة في الانتقام من الحياة أو لتأكيد الذات ونسيان أحزانها الفردية والعامّة.
ومن ثمة، يكون الجرافيتي فنّ الاحتجاج بلا منازع، على غرار احتجاج فناني الجرافيتي على جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية لمنع الفلسطينيين من دخول المستوطنات، وأنجزه فنانون فلسطينيوّن صحبة أشهر فناني الجرافيتي في العالم مثل الفنان البريطاني "بانكسي" والفرنسيَيْن "جي آر" و"ميسيو كانا".
ولعلّ ما ميّز فنّ الجرافيتي الحديث هو اقترانُه بالمُدن ومظاهر العيش فيها، فهو فنّ مدينيّ بامتياز، وهو أمر جعلنا نميل إلى تعريب صفته الغربية " Urbain Art" بعبارة "الفنّ المَدِينيّ" "نسبة إلى المدينة" ونفضِّلُها على ما دَرَجَ من تسميته بالفن الحَضَري، وذلك لسببَيْن: أوّلهما هو أنّ صفة "الحَضَري" قليلةُ الاستعمال في مكتوبنا الحديث، فلا نُلفي لها وجودًا إلاّ في نصوصنا القديمة، وثانيهما هو أنّها صفة عامة، فالحَضَرُ، في لسان العرب، والحَضْرَةُ والحاضِرَةُ: خلاف البادية، وهي المُدُنُ والقُرَى والرِّيفُ، والحال أنّ وجودَ هذا الفنّ لم يتجلّ إلاّ في العواصم والمدن الكبيرة التي مثّل فيها ثقافةَ الشارع وهواجسَ الناس فيه.
* المال و"نُبْلُ" الأعمال
لأنّ للتجارة فلسفتها وشروط نجاحها، ولها أيضًا أحكامها وحِكَمها الخاصّة، ولأنّ "صاحب القرش صيّاد" على حدّ ما قال أحد أجدادنا العرب، فقد انتبه أصحاب المزادات والعروض الفنية بأميركا، وبغيرها من العواصم الغربية، إلى أهمية الجرافيتي وما يمكن أن تُمثّله لهم لوحات هذا الفنّ من فرص للاستثمار وحيازة المزيد من الثروة.
فهبّوا يُخرجون هذا الفنّ من سياقاته الهامشيّة والشوارعيِّة والفوضويّة ويدخلونه أرقى قاعات العروض الفنّية أين يتمّ تطهيرُه من غبار الشوارع وتعميده ببريق الأضواء الذي يجعل منه فنّا لا يرقى إلى نُبْلِه شكٌّ، وهم بذلك يسعون إلى خلق أسواقٍ لها نكهة إبداعية جديدة لدى جمهور الفنّ التشكيليّ كما لو كانوا يعملون بوصيّة مثلنا الشعبي الذي يقول: "جود السوق ولا جود البضاعه".
العرب اولاين |