ريمان برس - خاص - تمهيـــد :
عندما كنت في مصر عام 2013م أثناء إزالة إمارة (الإخوان المسلمون) في (ميدان رابعة العدوية) و (ميدان النهضة) سمعت ستة عشر إشاعة كاذبة أطلقها (الإخوان المسلمون) وأنصارهم ضد الدولة المصرية.
على أن الإشاعة التي لفتت نظري وذكرتني بالماضي البعيد هي أن (السيدة العذراء زارت المعتصمين في "ميدان رابعة العدوية" وبشرتهم بعودة الرئيس الإخواني المعزول (د. محمد مرسي)؟!
والإشاعة الأخرى هي أن (الملاك جبريل) يرفرف بجناحيه كل ليلة فوق (ميدان رابعة العدوية) تضامناً مع المعتصمين.
وقد ذكرني ذلك بعدد من الإشاعات الخرافية المرافقة للهزيمة التي أحاقت بالمصريين والعرب عموماً على يد العدو الإسرائيلي عام 1967م. ومن ذلك إشاعة (ظهور السيدة مريم العذراء)، على جدار إحدى الكنائس هناك.
خلفيــة تاريخيــة :
أثناء دراستي في كلية الحقوق - جامعة القاهرة، حدثت تظاهرة دينية وشعبية عارمة تمثلت في صيرورة ضاحية (الزيتون) بالقاهرة مزاراً لجماهير حاشدة كي يشاهدوا ظهور السيدة (مريم العذراء) على جدار إحدى الكنائس هناك. وقد بلغت الهستيريا الجماهيرية أوجها في التدافع لرؤية مزعوم المعجزة مما نجم عنه قتل خمسة عشر شخصاً دوساً بالأقدام، كما أصيب أكثر من ثلاثين شخصاً بجروح خطيرة، وكان كل القتلى من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سن التاسعة والحادية عشرة عدا اثنين كانوا من المسنين( ).
وحينها صرح أحد كبار أساتذة القانون بما يلي:
((أن تكرر ظهور السيدة العذراء يؤكد أن المعجزة ستستمر حتى تعود القدس عربية وتتحرر من الإرهاب الصهيوني))( ).
وقد أدى تصريح الدكتور المذكور إلى هبوط مكانته العلمية في نفسي بسبب تفكيره الخرافي، وعلى عكس ما ذهب إليه أستاذ القانون، فإن الصحفي والمفكر الكبير (محمد حسنين هيكل) علق على الوضع العربي بعد هزيمة حزيران 1967م قائلاً: أكثر من مرة ما معناه أن أتمام تصفية آثار العدوان بدون اللجوء إلى العمل الحربي والقوة العسكرية لن يحدث ألا بمعجزة، ثم شدد على أن عصرنا ليس عصر المعجزات بمعنى أن زمن المعجزات قد ولى وفات وانتهى. غير أن الظروف شاءت تكذيب المفكر العقلاني (هيكل) في ما ذهب إليه حول عصر المعجزات إذ طلعت علينا صحيفة (الأهرام) في مايو 1968م حاملة بيان البابا (كيرلس) حول معجزة ظهور السيدة العذراء.
وفي المؤتمر الصحفي طرح أحد الصحفيين السؤال التالي: ((وهل هناك مشروعات لتحويل "ضاحية الزيتون" إلى منطقة سياحية؟)). فأجاب (الأنبا صموئيل) (المتحدث الرسمي):
((أن هذا البيان بداية طيبة لهذه المنطقة، فهو اعتراف بأن هذا المكان أصبح مكاناً مقدساً، وستعد المشروعات اللازمة لإقامة المزارات والتذكارات القدسية فيه))( ).
وعلق البعض على ذلك بأن هناك رغبة عارمة لدى القيمين على المعجزة لتحويل ضاحية الزيتون إلى منطقة سياحية (مهما كان الثمن).
الاستغلال السياسي :
في مضمار الاستغلال السياسي للمعجزة المزعومة أبرزت صحيفة (الأهرام) الحكومية العنوان التالي في صفحتها الثانية: [ظهور العذراء يشير بأن الله سيكون في نصرتنا وأن السماء لم تتخل عنا]، بعد كل الذي حدث لا يزال يطلب من العرب، من أعماق قلوبهم، استجداء النصر من السماء عوضاً عن أن يطلب منهم الاعتماد الكلي على أنفسهم وعلى تصميمهم وعملهم وروحهم الكفاحية بدون أية تعزية أو مؤاساة أو أي أمل بمساعدة خارجية أن كانت من السماء أو من هيئة الأمم، لا فارق في ذلك. وجاء في المؤتمر الصحفي لزعيم المسيحيين في مصر السابق ذكره الحافل التعليل التالي لظهور العذراء في هذا الوقت بالذات وفي مصر نفسها:
((فقد قلنا أن القديسين والشهداء يظهرون للمؤمنين في وقت الشدة لمساندتهم وشد أزرهم. ولذلك جاءت العذراء لشد أزر الشعب المصري المؤمن المبارك بنص الكتاب المقدس، في الشدة أو الأزمة التي يمر بها وتبصيره بأن الله لم ينس وعده لهم بأنهم شعب مبارك لديه ... ودعوة أبناء مصر إلى التمسك بأيمانه وعقائده في هذا الوقت بالذات، الذي تنتشر فيه دعوات الإلحاد وأصوات الكفر وصرخات الابتعاد عن الله وعن الإيمان، ونحن لا ننسى حتى الآن ذلك الإنسان الذي أرسل إلى الفضاء وعاد ليقول أنه بحث عن الله في السماء فلم يجده))( ).
وقد علق بعض المثقفين على ذلك بأن العذراء لم تظهر لتدعو العالم العربي في مصر للتمسك بثورته والمضي قدماً على الطريق التقدمية للقضاء على التخلف المادي والفكري والرد على التحدي الإسرائيلي بل جاءت (مريم العذراء) لتطلب الشعوب العربية الاستمرار بالتمسك بالعقائد البالية المتوارثة والأيدلوجية الغيبية المتسلطة على العقول، أي مجابهة المستقبل بالارتداد إلى الوراء بدلاً من الاندفاع إلى الإمام، كما أن عملية الغمز والاتهام الموجهة إلى الاتحاد السوفيتي ورواد فضائه جلية كل الجلاء في تصريح رجل الدين المسيحي الآنف، ولذلك تساءل أحد المثقفين العرب: عن القديسين الذين ظهروا للشعب الكوبي والشعب الفيتنامي في وقت الشدة وفيما إذا كان لهذا الظهور أي علاقة بالانتصارات الكبيرة التي حققها الشعبان ضد الغزو الاستعماري، أم أن معدن أمثال هذه الشعوب هو من معدن الأبطال ولا حاجة بها للقديسين وللغيبيات وللشهداء الدينيين لكي تفلح في دنياها وتنتصر في معاركها( )؟
مثال آخر عن المغازي السياسية التي استنتجت من حكاية ظهور العذراء القول التالي للأنبا (جريجوريوس) في المؤتمر الصحفي الذي عقده بالمناسبة، حيث قال عن هذا الظهور بأنه:
((بشير طيب وعلامة سماوية بأن الله معنا ولم يتركنا، نحن نسمع منذ يونيو الماضي أن الله تخلى عنا، ولولا هذا ما وقعت النكسة، ولكن هذا الظهور وقد تم علنا للآلاف، يعني أن الله معنا وأنه سيكون في نصرتنا، وليشعر الكل بأن هذه الأزمة طارئة فقط وأن السماء ما زالت في نصرتنا، كما أن هذا الظهور قد يعني أن السيدة العذراء لا ترضى عما ارتكبه ويرتكبه اليهود في الأراضي المقدسة بمدينة القدس، وأن ما يقع هناك قد أحزنها وهي حامية الأرض المقدسة، فجاءت لتعلن للبشر غضبتها وحزنها وتدعو لتخليص القدس من مغتصبيها))( ).
هل يفترض في العذراء أن تنزل بنفسها من السماء ليعلم العرب أن تحرير القدس وجميع الأراضي المحتلة معها ضرورة قومية وحيوية قصوى؟ أم أننا نسينا أن موضوع التحرير هو تحصيل حاصل ولا يحتاج إلى دعم سماوي أو تفسير إعجازي أو تذكير مريمي؟
مزاعم الكهنة وغضب المثقفين :
صرح الأب (غيروط) أن الظهور الإعجازي للعذراء قد اقترن قديماً وفي كل مرة برسائل معينة أملتها أو أوحت بها للذين ظهرت لهم. ثم حدد الأب رسالة العذراء في هذا الظهور بقوله: ((ولهذا أرادت بظهورها أن تعوض الذين حالت ظروف العدوان (الإسرائيلي عام 1967م) دون زيارتهم للأراضي المقدسة ببيت المقدس عن هذا الحرمان)). [صحيفة وطني، ص (2)]. وأضافت الصحيفة المذكورة قائلة:
((ويفسر بعض رجال (الأكليروس) ظهورها بمدلولات عدة هي: ظهرت مريم العذراء لشعب مصر لتعوض الحجاج المصريين (المسيحيين) عن حرمانهم من زيارة بيت المقدس بعد أن أغلق العدوان الأبواب في وجوههم.
ظهر لهم النور السماوي لأنهم حرموا من نور القيامة المجيد فأحسوا بالعزاء يثلج ويطمئن نفوسهم))( ).
ترى هل يحتاج العرب اليوم، ونحن اليمنيون بعضاً منهم، إلى الخرافات والعزاء الغيبي وغيبوبة العقل والاطمئنان والحديث الذي يثلج الصدر أم إلى النقد والرفض والقلق وكل ما يلهب الصدر ويحرك العقل في مواجهة الاحتلال الصهيوني والتحديات المميتة المحيطة بهم؟
وأخيراً قال الأنبا (جريجوريوس)، أسقف الدراسات العليا والبحث العلمي (كذا)، في المؤتمر الصحفي إياه:
((لعل هذا الظهور بشير خير وعلامة سماوية من الله على النصر))( ).
ليس من الضروري أن يكون الإنسان عالماً طبيعياً كتبحراً أو أخصائياً في الإلكترونيات و (الأثيريات) ليتبين أن هذا الكلام هراء بهراء وهو أتعس من الخرافات والخزعبلات وأخطر منها لأنه يأتي باسم العلم وبلغة تبدو عليها صفة الرصانة وعلى لسان رجل دين مسئول وكبير في صحيفة مثل صحيفة (الأهرام).
لقد أثار الاستغلال السياسي والديني لمزعوم معجزة ظهور العذراء معظم المثقفين العرب التقدميين، فها أحدهم يكتب ثائر:
((عار على العقل العربي في النصف الثاني من القرن العشرين أن يردد هذا الكلام الفارغ عن (أثيرية الإنسان التي لا تمحى من الوجود والتي يمكن تجسيدها في أي وقت) وهذا التخريف عن (تصوير رجال ونساء ماتوا منذ مئات السنين). كل ذلك باسم العلم وفي مؤتمر صحفي رسمي وبرعاية دولة تقدمية وفي بلد اشتراكي وبعد هزيمة مريعة كان من أسبابها المستوى العلمي المنخفض جداً في سائر أرجاء الوطن العربي. بما أننا استطعنا، عن طريق الإيمان والقديسين والشهداء، تحقيق ما لا يستطيع الآخرون تحقيقه إلا عن طريق العلم الحديث والآلات والأجهزة الإلكترونية المعقدة فما علينا إلا أن نترك هذه الآلات والأجهزة لـ (موشى دايان) وجماعته ونندار لقديسينا وشهدائنا وروحانياتنا وغيبياتنا فنصل إلى ذات النتيجة التي وصلوا إليها!! أهذا هو الإرشاد الثقافي والجماهيري الذي يحتاجه الشعب العربي بعد الهزيمة؟))( ).
مزعوم معجزات الشفاء :
بالنسبة لمزعوم معجزات الشفاء من الأمراض التي قيل الكثير عنها وعن حدوثها بمناسبة ظهور العذراء على جدار الكنيسة فإن تعليلها العلمي معروف وبسيط. إذ من المعروف أن فئة كبيرة من أنواع العجز التي يعاني منها الإنسان، مثل بعض أنواع العمى والصمم والشلل ... الخ، لا ترجع إلى أي خلل عضوي في جسم الإنسان وإنما تكون ناتجة عن عوامل شعورية وعاطفية ونفسية، وتسمى هذه الأنواع من العجز بالأمراض (النفسية - الجسيمة) (Psycho - Somatic).
وحين يقول المروجون لمزعوم معجزات الشفاء أن فلاناً كان مصاباً بعلة عجز الطب عن شفائها وشفي بظهور (مريم العذراء) عام الهزيمة 1967م، فإن فحوى هذا القول لا يتعدى الإقرار بأن الأطباء لم يجدوا أي خلل عضوي أو فيزيولوجي في أعضاء المريض يؤدي إلى حدوث هذه العلة أو العارض، أو ما شابه هذا الإقرار. غير أن الإقرار لا يعني أن العلة لا ترجع إلى أسباب نفسية غير عضوية قادرة على التأثير مباشراً وسلبياً على أعضاء الإنسان.
وسجلات العلاج النفسي مليئة بالأمثلة عن العلل والأمراض والعوارض التي (عجز الطب عن شفائها) ولكن تمكن الطبيب النفساني من معالجتها وشفائها، ونذكر هنا أن الهزات العاطفية العنيفة كثيراً ما كانت ترافق عملية الشفاء هذه أو تسبقها بقليل.
لنتصور أنساناً مشلول اليد، مثلاً، لأسباب لم يتمكن الطب من تحديدها، أي لأسباب غير عضوية. وعوضاً عن معالجته عند الأخصائي لنقترح عليه الذهاب إلى مكان المعجزة، حيث تتم عجائب الشفاء للكثيرين غيره في أجواء نابضة مشحونة بالعواطف ومضمونة إلى أقصى الحدود. بعد ذلك ليس من العسر أن نتصور كيف يمكن أن تتولد في نفس هذا الإنسان هزة انفعالية قوية أو صدمة عاطفية تكون بمثابة متنفس للمشكلة النفسية الدفينة التي يعاني منها والكامنة خلف شلل يده فيحقق بذلك ما كان سيحققه تحت أشراف الطبيب الأخصائي في هذا النوع من الأمراض فيذهب عنه الشلل أو تظهر عليه دلائل التحسين المفاجئ.
حوادث الشفاء هذه لا تمت إلى المعجزات والخوارق بشيء أن هي حدثت في المستشفى تحت أشراف الطبيب النفساني أو في حضرة كاهن أو ساحر يدعي القدرة على شفاء الناس أو عند مزار ديني يؤمه الناس أو بين مجموعة من المؤمنين تنتظر ظهور العذراء.
وعلى كل حال لقد كتبت دراسات علمية عديدة باللغات الأجنبية فما تفسير هذا النوع من الشفاء وباستطاعته القارئ الرجوع إلى بعضها. ولم أبغ ــــ ذكر موضوع الشفاء المفاجئ على هذا النحو المقتضب إلا الإشارة إلى أن ما يسمى بمعجزات الشفاء ليست أحداثاً خارقة عجز العلم على تفسيرها كما يظن البعض أو كما قال الكهنة وأعوانهم المروجون للمعجزات المزعومة بمناسبة ظهور (مريم العذراء) في (القاهرة). بعبارة أخرى، متى عرف السبب زال العجب وظهرت الحقيقة العلمية لمن تهمه الحقيقة العلمية.
عواقب الهستيريا الدينية :
حصد العرب العواقب المفجعة لهذه (الهستيريا الدينية) التي حملت لواءها الصحافة ووسائل الإعلام وروجت لها.
أوردت وكالة (يونايتد برس) النبأ التالي من القاهرة:
((نفى رؤساء الكنيسة القبطية في مصر اليوم (الإشاعات) عن ظهور السيدة العذراء مرة أخرى، بعد أن توفى 15 شخصاً دوساً تحت الأقدام الليلية الماضية عندما تدفق جمهور كبير على ضاحية (شبرا) أثار تردد إشاعة عن ظهور جديد هناك.
وكان أكثر القتلى من الأولاد مما تتراوح أعمارهم بين التاسعة والحادية عشرة بالإضافة إلى اثنين من المسنين، وقالت الشرطة أن ثلاثين شخصاً على الأقل أصيبوا بجراح وتولت السلطات إغلاق الكنيسة الخ ...))( ).
لقد كانت نتائج هذه التصورات الخرافية والمسرحية الدينية المحمومة مأساة راح ضحيتها عبثاً عشرات من الأطفال الأبرياء والمواطنين الطيبين الساذجين الذين لن تفتدى دمهم إلا دموع الأمهات والآباء وأحزان الأصدقاء. فهنيئاً ومريئاً بهذه المأساة المفجعة لأنصار العذراء والمعجزات والسياحة والتعزية الروحية بضياع القدس، ومرحى لمخرج أمثال هذه المسرحيات، والثناء على مروجيها في أجهزة الأعلام والوزارات وشكراً للكنيسة القبطية على نفيها لاحقاً لظهور العذراء، كما أن الشكر موصول للسلطات لإغلاقها الكنيسة ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد أن وقعت الواقعة ومات من مات وجرح ما جرح وديس من ديس من الأطفال تحت الأقدام( ).
|