ريمان برس - متابعات - لم يكونا أكثر من رجلين في نفق بمدينة عدن عندما اتخذا قراراً يتعلق بمصير دولتين وطلب حينها رئيس الحزب الإشتراكي علي سالم البيض من رئيس اليمن الشمالي –آنذاك- الشروع بوحدة إندماجية عوضاً عن وحدة فيدرالية، كان البيض يهرب من كارثه اقتصادية محققة ووضع سياسي خانق بعد حرب 86م اعجزه كلياً عن الحركة وبدا الهروب للإمام أفضل المخارج. اليوم وبعد 24 عاماً من هذا المشهد الهزلي وبعد وحدة متعجلة وحرب سريعة أجهضت مضمونها ومرحلة حكم فردي مظلمة وحراك شعبي جنوباً وشمالاً، نتجه نحو الخيار المعاكس وهو الفيدرالية وبشكل شخصي وعبثي مشابه تماماً لما جرى آنذاك.
لا احد حتى آلان يعلم كيف تم افتراض إن الفيدرالية الحل الأنسب لليمن دون مناقشات واسعة وحتى رضا واضح من اطراف مهمة تمثل الشارع الجنوبي مثل الحراك، لكن يبدو إن العقلية التوافقية تصورت إنه حل يمزج بين خياري الوحدة والإنفصال ككل خياراتنا الوسطية والتي تجمع بين نقيضين. هنا الفيدرالية كصيغة سياسية ليس بالأمر السئ لكنها قد تحظى بالفشل مثلها مثل الوحدة التي كانت حلم يراود اليمنييون، وتحمل معها الكثير من الإمكانات في توحد دولتين تمتلكان كل المقدرات والمقومات لتصبحا دولة واحدة قوية.
المشكلة في اليمن ليست بطبيعة الخيارات السياسية بقدر ما يكمن في طبيعة التعامل السياسي مع هذه الخيارات التي لاتمتلك بذاتها حلاً سحرياً بل تحتاج للعمل على نجاحها، فالوحدة تمتلك كل مقومات النجاح وكذلك الفيدرالية صيغة تناسب اليمن ومجتمعه، هذا طبعاً في الظروف المثالية والحالات الطبيعية التي تسير فيها الأمور كما ينبغي لها وليس في الحالة اليمنية حيث سرعان ما اتجهت الوحدة لحرب أهلية وشبح التمزق وانهيار الدولة المركزية الضعيفة يخيم على فكرة الفيدرالية.
قتل فكرة الوحدة تلك الشخصنة التي تجسدت في مشهد النفق حيث كان اتفاق بين شخصين لا غير دون دراسة أو تخطيط وحتى آلان لا احد يعرف لماذا تصور البيض إن خيار الوحدة الإندماجية افضل، بينما لا احد يعلم لماذا انتقض بعض اعضاء مؤتمر الحوار الوطني يهتفون بصوت عالي لرئيس الجمهورية، قائلين: فوضناك. هكذا تتجه الفيدرالية من قضية نقاش سياسي ومجتمعي ومحور دراسات موضوعية حول مدى فاعليتها في الحالة اليمنية وماهي الخطوات التي ينبغي اتخاذها لتصبح قضية مرتبطة بتقديرات واهواء شخص.
على أي حال كان الإطار التنظيمي لمؤتمر الحوار يعطي الحق للرئيس الحسم في القضايا المعلقة، وكانت احد الفخاخ الكثيرة التي نصبت لمؤتمر الحوار الوطني. وهذا يعني من جهة أخرى إنه لاشئ كان يستدعي هذه الحالة من الهرج والمرج وكان يكفي إحالة الأمر لرئيس الجمهورية دون تدافع ممن "يفوضون" ومغاضبة ممن يرفضون. لكن هذا لا يعني إن هذه الصيغة الشخصية جداً حتى لو كانت في إطار تنظيمي سوف تكون ناجحة بالفعل، فهذا يعد تكرار سيناريو المرة الأولى من الإتفاق الشخصي جداً في قضية وطنية وإستراتيجية لكن هذه المرة لن يتحول الوضع لمأساة كما كانت في حرب 94 بل لمهزله قادمة بدأ تجسيدها بالموقف الذي رأيناه في مؤتمر الحوار.
ليس من ضرر في تغيير شكل الدولة وهذا أمر يحدث كثيراً في المنحنيات الكبرى، لكن تقديم الفيدرالية بهذه الصورة بكل هذه الإعتباطية بدون دراسة ومعرفة ولاتخطيط يبدو كخطوة اضافية في المجهول، مثلها مثل الوحدة في وقت سابق رغم إنها خيار أقل وميضاً من خيار الوحدة، ومع ذلك سقطت الوحدة جراء العشوائية التي تفرضها خيارات غير مدروسة يأخذها اشخاص.
ويزيد من اختلال الموقف طبيعة المبررات التي يسوقها كل طرف للترويج لفكرته،فالمؤيد للفيدرالية والمعادي لها يتفقان في تصوير إن خيارهما يهدف للحفاظ على الوحدة وخشية على البلد من التفكك. في الواقع الخوف ليس فقط مستشار سئ بل هو أيضاً مبرر سطحي يدفع نحو إتجاهات غير سليمة لأن القرارات المهمة في وضع كهذا لا ينبغي أن تتخذ كمخرج طوارئ بل كخيار إستراتيجي واضح له حيثياته الواقعية والمنطقية معاً.
عملياً من يندفع ضد الفيدرالية بحجة الحفاظ على الوحدة، فالوحدة بحد ذاتها ليست غاية ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، هي صيغة سياسية تفتح لليمن أفق مستقبلي مختلف من حيث إنها توفر مقومات طبيعية وبشرية تساعدها لتحقيق طفرات تنموية شاسعة لا توفرها دول متفرقة أو دولتان سرعان ما فقدتا مبرر وجودهما بعد إنتهاء وظفيتيهما بالحرب الباردة. الوحدة لا يمكن لها إن تقوم بدون رضا جميع قطاعات المجتمع وهذا لايتوفر إلا لو حققت مصالحه ووفرات العدالة والكرامة للجميع،وهذا أمر غير حاصل بالحالة اليمنية لذا يبدو حديث الحرص عن الوحدة في رفض الفيدرالية مثير للسخرية خاصة إنها خيار تجاوزه الشارع الجنوبي منذ وقت مبكر حتى مع تطبيق النقاط العشرون. هناك أسباب ربما اكثر وجاهة للدفاع عن وجهة النظر المعادية الفيدرالية تتعلق بما سوف تلحقه من ضرر على معاش الناس ومصالحهم، وليس من بينها مجرد الخوف على الوحدة التي فشلنا في جعلها صيغة تخدم الإنسان اليمني وتصنع لنا مستقبل أفضل.
هنا يأتي دور المدافعون عن الفيدرالية بحجة إنها الصيغة السياسية الوحيدة المتبقية للحفاظ على الوحدة، تبدو الوحدة مجدداُ لوحة براقة فقدت بريقها كلياً في الجنوب لكنها تنجح شمالاً، كذلك مرة أخرى تبدو المخاوف ومخرج الطوارئ حاضر بقوة. الخيارات المصيرية عندما تتحول لمخارج طوارئ قد تؤدي لنتائج معاكسة، فالطوارئ يحكمها الإضطرار والعجلة وعدم التهيئة وضيق الأفق بينما الخيار المصيري يستدعي التهيئة والتفكير والتأني.
في النهاية تظل الوحدة لا يهددها الفيدرالية أو يحافظ عليها بل ما يتهدد الوحدة والفيدرالية معاً هي الطبيعة الفاسدة لنخبتنا التي استمرأت العمل السياسي بمنطق التسويات الذي يخلو من الشفافية ويستدعي البعد عن الناس لكي تتم الصفقات بتشابكاتها المعقدة من صفقات مالية وتدخلات خارجية بعيدة عن الانظار. إذن مشكلة الوحدة والفيدرالية وكذلك الإنفصال تعيدنا للمربع الأول وهي نخبة الكهول التي لا أمل في إصلاحها وتتجه نحو التوريث كذلك، وبعضها ورث بالفعل مثل ابناء الشيخ الأحمر وآخرين بالطريق مثل فادي وريث أبيه حسن باعوم وغيرها من حالات، لذا لا حل سوى بتغيير هذه النخبة لنخبة جديدة يمكنها تبني اساليب مختلفة بالعمل السياسي.
مجدداً التساؤل هنا ينبغي أن يطرح حول الناس وما هي الصيغة التي تناسبهم وبأي شكل ينبغي أن تتحقق، هنا على حد علمي لم أر مراكز بحثية واستطلاعات رأي تقرأ توجهات وتصورات ابناء المحافظات اليمنية وتنقلها للحوار ليتدارسها سياسياً، بل أرى حالة إعتباطية تثير القلق ولا يكفي القول إنها مخرج للوحدة حتى تبدو جيدة ولا يكفي إنها سوف تنجح لمجرد تقسيم الدولة لمجموعة أقاليم وليس مجرد إقليمين، بحجة تعدد الإقاليم سوف يبعد من إحتمالية أن تستقل بذاتها. وهنا تعود ذات المشكلة وهي الخوف كمبرر غير شرعي لخياراتنا وفي النهاية فشل الفيدرالية سوف يؤدي للتمزق سواء كانت إقليمين أم اكثر.
يظل في النهاية الخشية على الوحدة مبالغ فيها والخشية من الإنفصال مبالغ فيه أيضاً، كما إن التبشير للفيدرالية بدون أي اسس واقعية حتى آلان مجرد وهم مبالغ فيه أيضاً، فالمسألة تتعلق بمصالح الناس وماهو الأنسب لتحقيقها وليس مجرد شعارات نظرية مثل الوحدة والفيدرالية أو ربما الإنفصال وتلك تستدعي نمط تفكير مختلف ونقاش مغاير وكذلك تطبيق عملي ليس بنخبوي وشخصي بل قريب من خيارات الناس وتصوراتهم. هكذا لاتزال مشكلة اليمن الكبرى تكمن في نخبتها السياسية واسلوبها في ممارسة السياسة أكثر من كونها في خياراتها السياسية ، لذا تدور البلد بذات الطاحونة منذ أمد ليس بقريب ولا يبدو إنه سينتهي بالوقت القريب.
- براقش |