ريمان برس - خاص -
لا يزل صوته يرن في أذني منذ أخر لقاء غير بعيد جمعني به في (جولة كنتاكي) حيث اعتدنا أن نلتقي غالبا في (بوفية الدملؤة) التابعة للاخ والصديق عبد الكريم الصلوي.. هناك اعتدنا أن نلتقي مع كوكبة من الزملاء والأصدقاء، وهناك كان أخر لقائي مع الأخ والزميل والأستاذ الدكتور توفيق الاغبري.. ذلك الإنسان الاستثنائي بسلوكه ومواقفه وثقافته وعلاقاته المجبول بنفس نقية وسريرة صافية ويحمل قلب مسكونا بكل المشاعر الراقية.. مرهف الاحساس، تستوطنه كل القيم الإنسانية النبيلة.. مناضل صلب وذو مبادئ يصعب اختراقها.. هكذا عرفته وهكذا كان وبهذه الصفات عرفه أصدقائه..
في آخر لقاءنا لفت نظره (شراهتي بالتدخين) فطلب مني التخفيف فابتسمت وقلت له يا دكتور اطلب مني أي طلب سانفذه فورا إلا هذا الطلب، ليس عن غياب إرادة بل لأن علاقتي (بالتدخين) ليست مجرد عادة ولا (ولعة) كما يقال بل هي ابعد من كل هذه التوصيفات انها علاقة روحية.. فضحك القهقه بصوته الرقيق الذي ينساب لمسامعك كأنسياب مياه الأنهار الهادئة..
فرد والابتسامة لا تفارق محياه :إذاً ( اخي طه) انت لم تكتفي بالانتماء للقائد المعلم فكريا بل تقمصت حتى عادته في (التدخين)، لم أرد فقد قطع حوارنا الثنائي زميلا آخر لندخل في حوار عن الشأن العام لقرابة ساعة كاملة قبل أن يستأذن بالانصراف فقد كان على موعد مع صديق آخر سيقابله في المستشفى الجمهوري، ودعته على أمل اللقاء ولكن.. لم يحدث لقاء بعد ذلك اللقاء، بل جاءنا نباء اسعافه لمستشفى الثورة العام ثم نباء رحيله عن الدنياء.. الله ما أقسى فاجعة رحيلك يا دكتور توفيق، وما أقسى الشعور بأننا لم نلتقي حيث اعتدنا أن نلتقي..
اعترف أنني لا اهاب الموت ولا أخشاه ولا يقلقنا حدوثه فأهلا به متى شاء، لكن لا أريد أن ألقى الله مثقلا بفواجع رحيل الزملاء الأعزاء والأصدقاء والأساتذة الذين تلقيت على أيديهم ما تيسر من المبادئ والقيم الأخلاقية، ممن أثروا في مسيرتي وأثروا قناعتي الفكرية..
إذ فاجأنا الموت خلال هذا الشهر برحيل هامة أدبية بحجم الدكتور عبد العزيز المقالح، ثم رحيل المناضل والأستاذ عبد الجليل على عبده، ثم فجعت برحيل الصديق عبده شمسان المقرمي، لتتوالي الفجائع برحيل الدكتور العزيز توفيق الاغبري..
يا آلهي.. يا الله.. ما أرحمك، فأنت الله الذي لا يأتي منه إلى كل خير، فحتى ما نضنه شرا كالموت هو خيرا لأننا في زمن يصعب فيه على الأنقياء تحمل ويلاته ومشاهدة تداعياته وإحداثه فتأتي رحمة الله لانتزاعهم من بيننا ومن براثن واقع ملوث مسكون بكل صور البشاعة والقبح..!!
فجائع متلاحقة _ احسبها ربما انا وأمثالي فجائع _ لكنها جعلتني اتجرد من الخوف في مواجهة الموت، الذي لا أعلم ميعاده لكني مؤمن بحدوثه وانتظره بقدر من الطمأنينة والثقة بأن ما يحمله لي ولكل الحالمين هو أفضل وأجمل من حياة القهر والتسلط والغطرسة التي يمارسها من بلاهم الله سبحانه وتعالى بالدنيا فأنساهم الآخرة وهم من( جعلهم الله بطغيانهم يعمهون) وسيتحملون وزر ما صنعوا..!
نعم رحل كثيرون من الأنقياء عن هذه الدنياء مقهورين، غير أن قهرهم سيكون حتما وبالاً على من تسبب بقهرهم من المتسلطين الذين( جعلوا الله عرضة لتسلطهم)، و ان كان عند الله يحتكم الخصوم، لكن ( طغاة اليوم) لم تعود خصوماتهم محصورة في نطاق أمثالهم من البشر بل أصبحت مع ( الله ورسوله) ومع كل قيم الحق والعدل والمواطنة وتعاليم الدين..!
أعلم ومؤمن حد اليقين أن الموت هو الحقيقة المطلقة في هذه الدنياء، لكن ليس هناك أسواء من ترحل عن الدنياء مقهورا ومظلوما وقاهرك وظالمك هو إنسان مثلك فرض نفسه عليك وجعل من نفسه شبه آلهة يتحكم بحياتك وبقوت يومك وحريتك دون أن يعطيك فرصة التعبير عن ذاتك ويرى كل ما يخالفه خروجا عن الدين والقانون والدستور، يستحق المخالف العقاب عليه وما أكثر أنواع العقوبات واقبحها عند أشباه الألهة..؟!
رحم الله الدكتور توفيق الاغبري واسكنه فسيح جناته وخالص العزاء لكل أولاده وأفراد أسرته ولكل أصدقائه ومحبيه والرحمة لكل الذين غادروا دنيانا ونسأل الله الرحمة بالأحياء من عباده إما من انتقلوا لجواره فقد أصبحوا في رحمته وعنايته حيث لا يظلم احد.
المكلوم :
طه العامري..
صنعاء في لحظة آلم. |